بين صنعاء وعدن وطهران.. هل من نافذةٍ للحسم؟
قراءة في تراجع الذراع الحوثي وتضعضع راعيه الإيراني… وفرصة استعادة التوازن الوطني اليمني
ارتباك داخلي يتجاوز حدود اليمن
لم تعد حملات الاعتقال الأخيرة في صفوف الحوثيين مجرّد إجراءاتٍ أمنيةٍ اعتيادية، بل تحوّلت إلى ظاهرةٍ سياسيةٍ تكشف عن أزمةٍ عميقةٍ في تماسك الحركة. فاتهام شخصياتٍ من الصفّ الأول، مثل ياسر الحوري، واعتقال الإعلامي البارز عابد المهذري بتهمة «التجسّس لصالح إسرائيل»، لا يعكس يقظةً أمنية بقدر ما يُشي بحالةٍ من الذعر الداخلي وانعدام الثقة داخل بنية الجماعة ذاتها.
إنّ الخطاب الحوثي، الذي اعتاد توظيف تهمة «العمالة» ضدّ خصومه، بات اليوم يلتهم أبناءه. والنتيجة أنّ الحركة، التي طالما قدّمت نفسها بوصفها «جبهة مقاومة موحّدة»، تنزلق اليوم إلى منطق الثورة التي تأكل أبناءها، بعد أن تآكلت شرعيتها من الداخل بفعل الصراعات والولاءات المتشابكة.
بصمات الحرس الثوري و"عقيدة الاشتباه الدائم"
لا يمكن فهم هذا المسار دون استحضار بصمات الحرس الثوري الإيراني، الذي يزرع في وكلائه فلسفة «الاشتباه الدائم» بعد كلّ اختراقٍ أمنيٍّ أو اغتيال. فالعقيدة الأمنية الإيرانية، كما تجلّت بعد الضربة الإسرائيلية التي طالت قياداتٍ في دمشق وطهران خلال حرب الاثني عشر يومًا في حزيران الماضي، تقوم على فكرة «التحصين عبر التطهير» — أي تطهير الصفوف بالكامل من أيّ شخصٍ يمكن أن يشكّل مصدر تسريبٍ أو ضعف.
تكرار هذه المقاربة داخل اليمن يعني أنّ طهران لم تعد قادرةً على حماية نفسها أو حلفائها إلا من خلال تصدير مناخ الشكّ والارتياب الداخلي الذي يسود مؤسساتها الأمنية منذ تلك الحرب، حيث تلقّت ضرباتٍ نوعيةً أضعفت توازنها الاستخباري وفضحت هشاشة منظومتها في الإقليم.
تصدّع المركز وارتداد الأطراف
الأزمة الحوثية الراهنة هي في جوهرها صدىً للأزمة الإيرانية. فكما أنّ طهران تواجه اليوم تضعضعًا في أجهزتها الأمنية وتآكلًا في مركز القرار بين «البيت الثوري» والمؤسسة العسكرية، نجد انعكاسًا لذلك في صنعاء وصعدة؛ إذ تفقد القيادة الحوثية قدرتها على ضبط الأجنحة المتصارعة، وتلجأ إلى التصفيات والاتهامات كوسيلةٍ وحيدةٍ لإعادة الانضباط.
والمفارقة أنّ هذا الانغلاق الأمني لا يحقّق لها تماسكًا، بل يزيد من عمق الشروخ ويقوّض ما تبقّى من توازنها الاجتماعي والسياسي في مناطق السيطرة، خصوصًا في ظلّ تصاعد السخط الشعبي وتدهور المعيشة بعد انقطاع الرواتب ومصادرة الممتلكات بذريعة «العمالة».
ضرورة استثمار لحظة التصدّع في محور الانقلاب
وفي ظلّ هذا التراجع المتسارع في تماسك الذراع الحوثي وارتباك راعيه في طهران، تبرز الحاجة الملحّة إلى تعزيز تماسك منظومة الشرعية اليمنية على المستويات كافة: الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والعسكرية.
فالمعادلة اليوم لا تحتمل التباطؤ؛ إذ تفتح حالة الارتباك الحوثي–الإيراني نافذةً استراتيجيةً لإعادة ترتيب الصفّ الوطني، وتفعيل مؤسسات الدولة الاتحادية بما يضمن استعادة القرار المالي والسيادي، وتكثيف الحضور الدبلوماسي الخارجي الذي يرسّخ شرعية الدولة اليمنية كفاعلٍ مسؤولٍ في منظومة الأمن الإقليمي والدولي.
إنّ اللحظة الراهنة تمثّل فرصةً نادرةً لتحويل ضعف الخصم إلى قوةٍ للمشروع الوطني، عبر توحيد القرار السياسي والاقتصادي والعسكري تحت مظلّة الشرعية، بما يعيد الثقة للداخل، والمصداقية للخارج، والفاعلية لمؤسسات الدولة في معركة استعادة اليمن وقراره.
نافذة الحسم ومسؤولية الإقليم
إنّ التحوّلات المتسارعة في اليمن لا يمكن فصلها عن المشهد الإقليمي الأوسع، حيث تتقاطع خطوط الأمن القومي العربي من مضيق باب المندب إلى مضيق هرمز. ومع انكشاف هشاشة الذراع الحوثية وتراجع نفوذ طهران، يصبح من الحيوي أن يُعيد التحالف العربي، ومعه القوى الإقليمية الفاعلة، رسم أولوياته من خلال دعم الدولة اليمنية الشرعية بوصفها خطَّ الدفاع الأول عن أمن البحر الأحمر والخليج العربي.
فاليمن المستقرّ ليس مصلحةً وطنيةً فحسب، بل ركيزةٌ في منظومة الأمن العربي الجماعي، ومفتاحٌ لاستعادة التوازن الإقليمي في مواجهة مشاريع الفوضى العابرة للحدود.
خاتمة: من أزمة الشرعية إلى أزمة البقاء
ما يجري في اليمن اليوم ليس سوى مرآةٍ لانكسار المركز الإيراني تحت وطأة العقوبات والضربات الدقيقة والاختراقات الأمنية. الحوثيون الذين بدَوا يومًا أداةً صلبةً بيد طهران، أصبحوا اليوم المرآة التي تعكس اهتزاز قبضة الوليّ الفقيه نفسه.
إنها لحظةٌ تكشف هشاشة الأنظمة العقائدية حين تُختزل في الولاء الأعمى وتُدار بالارتياب بدل الثقة. فكما أنّ طهران فقدت بوصلة التمدّد، يفقد الحوثيون بوصلتهم في الداخل، ليجد كلٌّ من المركز والوكيل نفسه في مواجهة ذاته.
وهكذا تتحوّل «المقاومة» إلى نظامٍ مغلقٍ يلتهم نفسه من الداخل — في طهران كما في صنعاء — بينما تبقى عدن واليمن الشرعي أمام فرصةٍ سانحةٍ لإعادة بناء الدولة واستعادة القرار الوطني الحرّ.
