إننا لا نختلق هوية بل نستعيدها..قضية الجنوب العربي أمام الأمم المتحدة سنة 1963
إعداد مسعود عمشوش
بين سنتي 1946 وسنة 1951 أكمل المناضل شيخان عبد الله الحبشي تعليمه المتوسط والثانوي في عدن: 1949 – 1951 م، وفيها التقى بعدد من المناضلين الجنوبيين والعرب. والتقى في القاهرة بزميل كفاحه طيب الذكر محمد علي الجفري، الذي توثقت صلاته وأسسا معا رابطة الجنوب العربي التي ظل سكرتيرا لها منذ تأسيسها عام 1950 م وحتى وفاته عام 1995 م.
وقد تبنت الرابطة هي أول حزب سياسي عربي يرفع شعار التحرر من الاستعمار البريطاني، المطالبة باستقلال الجنوب العربي، 1956 م وأعلنت بطلان معاهدات الحماية والاستشارة في الجنوب، وبسبب ذلك منعت بريطانيا الحبشي من الذي كان حينذاك في أجازه بالقاهرة من العودة إلى عدن. وخلال فترة اقامته في القاهرة أسس مكتب الجنوب العربي هناك، وظل ممثلا للرابطة فيها خلال الأعوام 1956 – 1964 م. ومن موقعه الجديد لم يتوانى في إبراز القضية التي نذر حياته لها وفي الدعوة إليها ودعمها من شتى المنابر والمحافل التي زخرت بها القاهرة في تلك الفترة التي كانت تمور بحركات التحرر في جميع أنحاء الوطن العربي. وهو من تولى عرض قضية الجنوب لأول مرة أمام لجنة تصفية الاستعمار التابعة للأمم المتحدة عدة مرات، ممثلاً عن الرابطة عام 1966 م. وأسفرت مجهوداته، مع الآخرين فيما بعد، عن صدور قرار يفرض على بريطانيا إنهاء استعمارها للجنوب وإقامة حكومة رعاية فيها، تمهيداً لإجراء انتخابات عامة تحت إشراف الأمم المتحدة ومن ثم تسليم سلطات الحكم وحقوق السيادة إلى شعب الجنوب. لكن الأحزاب الأخرى قاطعت اللجنة التي وصلت إلى عدن، والمرسلة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، مما أدى إلى عودة هذه اللجنة دون تحقيق الثمرة التي ناضلت من اجلها الرابطة طوال الأعوام المنصرمة.
وفي السادس عشر من شهر ابريل سنة 1963 دعي الأستاذ شيخان الحبشي أمين عام رابطة أبناء الجنوب العربي، رحمه الله، ليلقي كلمة أمام لجنة تصفية الاستعمار في هيئة الأمم المتحدة.
وفي بداية الجلسة خاطبه رئيس الجلسة: "لقد وافقنا على إعطاء فرصة التحدث إلى أحد المندوبين الوطنيين وهو السيد الحبشي سكرتير رابطة أبناء الجنوب العربي، وأنا بدوري أدعوه ليقف على منصة اللجنة لإلقاء كلمته".
كلمة الأستاذ شيخان الحبشي:
السيد رئيس الجلسة، السادة الاْعضاء الموقرين، يجب عليَّ قبل كل شيء اْن أعبر عن شكر وامتنان شعب الجنوب العربي نحو الأمم المتحدة كمنظمة دولية وكأعضاء في هذه المنظمة، فقد استطاعت المنظمة أن تحقق استقلال كثير من الاْمم الاْفريقية والأسيوية، واستطاعت اْيضا اْن تكفل إلى حد كبير السلام والأمن للعالم، بيد أن ما يستحق الشكر والامتنان بوجه خاص هو أن قد اْصدرت قرارها الدولي الخاص بإلغاء الاستعمار ومنح الاستقلال لكل الشعوب والأقطار المستعمرة، وبوجه اْخص اْنشاء الجمعية العامة هذه اللجنة كتنفيذ نص ومعنى بنود القرار كيما تستطيع جميع الشعوب والمناطق المحتلة أن تحصل على اْستقلالها.
لقد حضرت إلى الاْمم المتحدة في عام 1959م ظانا اْني سأطرق اْبوابها اساْلها اْن تمنحنا الاستقلال.. وكان الاعتقاد آنذاك أن الأمم المتحدة تستطيع أْن تفعل شيئا، غير أنها لم تكن قدْ أصدرت قرار منح الاستقلال وكذا فقد علمت من الجميع وكنت أعتقد أنني لن أحصل وأتمتع بحق الاستماع في المنظمة مالم أهدد السلم العالمي، وأريق الدماء وأرتكب التخريب والقتل وكثيرا من أعمال العنف عندئذ فقط أستطيع لفت نظر الأمم المتحدة.
والآن وقد صدر القرار المشار اليه آنفا نستطيع معشر أْبناء الجنوب العربي أن نتمتع بحق الاستماع والكلام والفضل يرجع الى الأمم المتحدة، ورغم ذلك فأن كثيرا من ذوي النوايا الطيبة في العالم مازالوا يعتقدون أن الأمم المتحدة لا تلتفت إلا إلى إراقة الدماء والقتل والمذابح والتخريب وأعمال العنف لأن الأمم المتحدة عودتهم على مثل هذا الاعتقاد ،وأنا أعتقد أن الأمم المتحدة يجب أن تزيل هذه الفكرة بأعمالها وتصرفاتها في السنيين القادمة، ولاسيما إزاء الجنوب العربي.
إن الجنوب العربي جزء من العالم العربي ومن السهل جدا أن يفعل أهله مثلما فعل الجزائريون والقبارصة فيريقوا الدماء ويزهقوا الأرواح فيحصلوا على احترام الأمم المتحدة لرغباتهم وأهدافهم ..لقد أتيت إلى الأمم المتحدة بتوجيه من أبناء الجنوب العربي وكلي ثقة وأيمان بأن الأمم المتحدة ستقوم بتنفيذ قرارها العالمي دون حاجة إلى ما لا يلزم من إراقة الدماء وارتكاب أعمال العنف .. أنني أرى أن أمام الأمم المتحدة فرصة طيبة لتثبت أنها قادرة على تنفيذ قرارها وأنها حريصة على الضعفاء والمستعمرين وحقن دمائهم حرصها على حياة الأمم القوية .. وأرجو ألا يؤدي حضوري إلى الأمم المتحدة ولجوئي اليها الى الاستهانة بتصميم شعبي الأكيد على مواصلة كفاحه لنيل حقه ألا وهو الحرية، فعلى الأمم المتحدة أن تلتزم بقراراتها فهي منظمة أمم متحدة، لا أمم متنافرة تنصر الحق والعدل .. وإذا تحقق العدل في كل مكان انتصر السلام والأمن.
إن قضية الجنوب العربي واضحة وبسيطة وسهلة الفهم إذا تحاشينا التعقيدات الكامنة خلفها، إنها قضية شعب مستعمر أعني شعب الجنوب العربي يعيش في ظل الحكم البريطاني وتحت سيطرته، ليس له تمثيل لدى أي تنظيم اْو هيئة عالمية ولا يتمتع بعضوية المجتمعات الحرة.
هذه هي قضية الجنوب العربي أنه قطر مستعبد وعلى الأمم المتحدة أن تجعله قطرا حرا..
إن عالم اليوم لم ير من قبل قطرا صغيرا قليل السكان متأخرا Yلى حد كبير يرأسه هذا العدد الغفير من الحكام، ومقسما إلى هذا العدد من الولايات لكل منها علمها الخاص وضرائبها الجمركية كالجنوب العربي .
في الجنوب العربي عدد من الولايات يضاهي عدد ولايات الأمريكيتين، فيه حوالي 23 ولاية أو تزيد برؤسائها من اْمراء وسلاطين وشيوخ، هم اْنفسهم ليسوا الا عبيدا لغيرهم لاحول لهم ولا قوة .
أما في المجالات الخارجية فالجنوب العربي وحدة سياسية لا تتجزأ رغم إنه داخليا مقسم الى هذا العدد الكبير من الولايات كل واحدة منها مستقلة تماما عن الاْخرى الا اْنها تخضع جميعها لعدن .. وعدن مستعمرة هذا هو الحال في الجنوب العربي واْي حال؟
وطالما أن حقيقة الاْوضاع هناك لازالت خافية على هذه المنظمة فاْن من واجبي أن أكشفها وأبينها، لا رغبة في التشهير والفضيحة ولكن لإحقاق الحق وكشف القناع عن الواقع المرير الذي يعيشه ذلك الصقع التعس.
ما هو الجنوب العربي؟
إن بلدي كما ذكرت يتكون من مستعمرة عدن - وهي مجرد مدينة - وعدد من السلطنات والامارات والمشيخات لا يعلم عددها أحد لأنها تتكاثر من وقت لآخر، كل هذه المنطقة وهي وحدة في نظر العالم الخارجي تقع على الساحل الجنوبي الغربي من بلاد العرب أما عدن فتبلغ مساحتها 75ميلا مربعا فقط بينما تبلغ مساحة عدن والمحميات حوالي 112ألف ميل مربع ..وكانت قد قسمت منذ عهد طويل إلى سلطنات وإمارات متعددة كل واحدة تتبع شيخا ..ثم جاءت قوات المملكة المتحدة في عام 1839م إلى عدن واْحتلتها بالقوة الحربية واختطفتها من سلطنة لحج ..ومنذ ذلك العام استطاعت سلطات المملكة المتحدة في عدن أن تخضع جميع شيوخ المنطقة وتربطهم بالسلطات البريطانية في عدن ولندن، وهكذا تدرج الشيوخ حتى أصبحوا رؤساء ولاياتهم اْمام مواطنيهم أما بالنسبة للمملكة المتحدة فليسوا سوى عبيد لاحول لهم ولا قوة لا يملكون حق التصرف بدافع من رغباتهم وأهدافهم ويتحتم عليهم طاعة وتنفيذ أوامر ونصائح سلطات المملكة المتحدة في عدن، وقد ارتبطوا بما يسمى معاهدات الحماية ومعاهدات الاْستشارة.
إنهم بمقتضى معاهدات الاستشارة محرومون من إقامة علاقات أو الاتصال أو التفاوض مع اْي جهة في الداخل والخارج إلا بعد موافقة الحكومة البريطانية بعدن ولا يستطيع أي منهم التفاوض مع شيخ آخر ولو كان جارا له دون موافقة الحكومة البريطانية في عدن .. وبمقتضى هذه المعاهدات قسمت المنطقة إلى وحدات سياسية متعددة وزاد استعبادها وتقييدها إزاء العالم الخارجي وقد كان واضحا للجميع اْن بريطانيا كانت -ولعلها لازالت- تطبق سياسة (فرق تسد).
تلك كانت حالة الجنوب العربي صحيح إن عدن ربما تكون ذات أهمية بالنسبة للملاحة التجارية ولكن هذا لا يحتم بقاءها تحت الاحتلال العسكري البريطاني ..وطالما أن المملكة المتحدة قد فرضت وصايتها كأمر واقع فيجب عليها أن تقوم بارتباطات وواجبات الوصاية الصالحة -فتطعم من استوصت نفسها عليهم وتقدم لهم العلاج وترعى مصالحهم وهو مالم تفعله المملكة المتحدة، فلم تطعم أبناء البلاد ولم تأبه لصحتهم ولم تنم مصالحهم الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية بأي حال من الأحوال فحتى عام 1956م لم يكن بالجنوب العربي اْية مدرسة ثانوية عدا مدرسة واحدة في عدن وهي إحدى مستعمرات التاج البريطاني، ولم يكن في البلاد طبيب من أبنائها .. ونقلا عن تقرير اللجنة الخاص بالمعلومات المتعلقة بالمناطق المستعمرة ليس بمستشفيات الجنوب العربي كله أكثر من 104 أسرة بينما يبلغ عدد السكان حوالي مليون ونصف المليون .. هذا ما حققته الوصية التي نصبت نفسها على المنطقة.
اتفاقيات الحماية والاستشارة:
إن أهل بلدي أبناء الجنوب العربي - كانوا خلال السنيين الماضية قد أوهموا أنهم مرتبطون بمقتضى اتفاقيات الحماية والاستشارة بالخضوع والإذعان لأي أو أمر أو نصائح تصدر عن الضباط السياسيين البريطانيين في المنطقة وإذا حاول بعضهم -كما فعل واحد منهم - دحض هذه الاتفاقيات والقول ببطلانها بمقتضى القانون الدولي سارعت السلطات البريطانية بعزلهم وسجنهم أو نفيهم ولم يكن في عدن رجل قانون واحد يستطيع أن يصرح براْيه السياسي معتمدا على معرفته وكفاءته القانونية ويصارح مواطنيه بأن تلك الاْتفاقيات باطلة وأنها مخالفة لمقتضيات ومفاهيم القانون الدولي، لأنها أبدية ولمصادرتها لحرية شعب بأسره، وعندما فعل المحامي الآنف الذكر ذلك حرم من العودة والعيش في بلاده، وبقي يتجول من عاصمة عربية إلى أخرى ..ذلك ما فعله فيه تهور الضباط السياسيين البريطانيين في عدن ..وكم حاول أبناء بلدي التعبير عن أهدافهم ورغبتهم في الحرية وسلكوا في محاولاتهم طرقا سلمية ولكنهم في كل مرة قوبلوا بالعسف والاعتداء وكل اشكال الاضطهاد - مثلا لما تبنى سلطان لحج (وهو سلطان متحرر ذو صلات شخصية بالعالم الخارجي بحكم هوايته للأسفار) الحزب الذي أنتمي اليه ولما شارك الشعب غاياته ورغباته المشروعة عزلوه وسارعت القوات البريطانية الى سلطنته واحتلتها عسكريا في 18ابريل عام 1958م ومنع من البقاء في عاصمته (لحج).. وسلطان آخر هو السلطان محمد بن عيدروس السلطان الشرعي على يافع السفلى والذي كان يمثل الأهداف والمطالب الوطنية والحركة التحررية، عزل هو الآخر وطرد، فاضطر الى اللجوء إلى جبال الجنوب العربي وليحمي نفسه ضد الهجمات المسلحة حمل السلاح وقد كان محقا فيما فعل فلم يكن بإمكانه رد الهجوم بغير حمل السلاح.. ومثل آخر هو السيد محمد علي الجفري الذي كان رئيسا لرابطة أبناء الجنوب العربي، إنه لما قاد مواطنيه بطريقة سلمية وحاول توعيتهم وتعريفهم بحقهم في الحرية، عزل ونفي وحرم من العيش في بلاده وهو الآن يتنقل بين العواصم العربية .. وقد طرد كثير من زعماء الجنوب العربي بعضهم نفي إلى الخارج وبعضهم شردوا في الجبال وفي اليمن والمملكة العربية السعودية واْندونيسيا اْلاف من اللاجئين يعيشون هناك هربا من الموت... وبسبب الاضطهاد والعدوان اللذين ترتكبهما السلطات البريطانية في عدن وبصفة أخص في جهات أخرى من الجنوب العربي وسلطناته، يسيطر على عدن سيطرة مباشرة ضباط سياسيون بريطانيون ملزمون إلى حد ما بمراعاة مقتضيات العدل والضمير - وأكرر الى حد ما - وبعض المناطق من السلطنات والمشيخات لم يحكمها الانجليز أنفسهم ولكنهم ولوا على كل منها شيخا وأعطوه سلطات لاحد لها يمارسها تحت رقابة السلطات البريطانية في عدن فإذا وجد ذلك الشيخ أحد منشورات الحركة الوطنية في حوزة أحد المواطنين سارع إلى سجنه غاشما لمدة عشرين عاما دون إبدا اْسباب ودون محاكمة اْو اعطائه اْية فرصة للدفاع عن نفسه وربما فرض عليه أيضا غرامة كبيرة .. هذا حال أبناء بلدي في الجنوب العربي وهكذا يعيشون في فزع وخوف من أن يسجنوا دون أي سبب أو جرم مما قيد حركة كل الأفراد هناك وهذا سر فشل أبناء وطني في عدم الاْفصاح لكم عن رغباتهم واْهدافهم التي يكافحون من اْجلها فاْذا زال عنهم الخوف والوجل، فسوف ترون بأنفسكم وتعرفون تعطشهم إلى الحرية والوحدة ومشاركة أخوانهم العرب في نضالهم السلمي والاْسهام في التقدم والحضارة الإنسانية.
