حضرموت.. إلى أين؟

كثيرًا ما تحدثنا، وتحدث غيرنا، وكتب المؤرخون والمهتمون بالشأن الحضرمي عن الخصوصيات والمزايا الإيجابية التي يتميز بها المجتمع الحضرمي دون سواه على مدى قرون طويلة من الزمان، ومن أبرزها: الأمانة، وحسن الخلق، وطيب المعشر، ومحبة السلام، واحترام الأنظمة والقوانين، والابتعاد عن الفتن ومصادر الفوضى أياً كان نوعها، وعدم التدخل في شؤون الآخرين.
وقد صارت هذه المزايا ملازمة للإنسان الحضرمي، سواء كان في وطنه حضرموت أو في المهاجر التي انتقل إليها. وأُلصقت بالحضرمي عبارة شائعة ذات دلالة سلبية، وهي لفظة (ما سيبي)، أي: «مالي دخل فيما يجري حولي». ولدى الحضارم بيت شعر يعزز هذه السلبية من أبيات الحكيم الحضرمي أبو عامر، التي كان يحفظها معظم أفراد المجتمع، وعلى وجه الخصوص كبار السن، وإلى عهد قريب، إذ يقول:
خير القول قولة ما دريت
إن شفت شيء ما قلت شيء
وإن حد حكى لي ما حكيت
وقد تكون ثقافة (ما سيبي) قد سرَت في المجتمع الحضرمي في القرون المتأخرة، بعد أن تعرضت حضرموت لغزوات استئصالية متعددة أثّرت على المجتمع الحضرمي بأكمله، وإلا فهي على النقيض تمامًا مما كان عليه الحضارم الأوائل، ذوو البأس الشديد وأهل النجدة والشجاعة، الذين كانوا في مقدمة الصفوف في معظم معارك المسلمين في صدر الإسلام، وكانوا من القادة، ويشهد التاريخ بجسارتهم، وبالذات رجال قبيلتي كندة وحضرموت، الذين عُرفوا برفضهم للظلم والظلمة أينما كانوا وفي كل العصور.
ولهذا كانت من أعنف الثورات ثورة عبد الرحمن بن الأشعث بن قيس الكندي ضد الحجاج بن يوسف الثقفي، أحد ولاة بني أمية، بعد أن تفشى ظلمه وطغيانه، الذي لم يسلم منه حتى كبار التابعين والعلماء. وكذلك ثورة الإمام عبد الله بن يحيى الكندي، الملقب بطالب الحق، في بدايات القرن الثاني الهجري، الذي أراد إسقاط مملكة بني أمية انتصارًا للمظلومين ومن أجل إقامة العدل والمساواة.
تلك المقدمة ضرورة تذكيرية ومهمة، وبالذات لأحفاد (كندة الملوك)، لعلهم يستذكرون شيئًا من أمجاد أولئك الأماجد.
حضرموت، كغيرها من الأقطار العربية والإسلامية، اجتاحتها في القرون المتأخرة ثقافة عصور الانحطاط المشبعة بالجهل والخرافة والصراعات القبلية.
وفي فترة قيام الدول الوطنية، وتحديدًا ما بعد الحرب العالمية الأولى، كانت حضرموت مجزأة بين سلطنتين توسعت إحداهما على حساب الأخرى، ثم كُبّلت باتفاقية الحماية مع الاحتلال البريطاني حتى عام 1967م.
ولم تظهر في حضرموت أي ملامح للنهضة، فظل الحضرمي يبحث عن الرزق في المهاجر المتعددة التي وصلها أجداده منذ قرون مضت في جنوب شرق آسيا وشرق أفريقيا وبلاد الحجاز، وحتى السلطان القعيطي اعتمد في إقامة سلطنته على أمواله ومدخراته التي اكتسبها في غربته بالديار الهندية.
ثم أصبحت حضرموت فيما بعد محافظة من محافظات جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية عام 1967م، ثم صارت محافظة من محافظات الجمهورية اليمنية بعد توحيد الدولتين عام 1990م.
وتعاقب على إدارة حضرموت عدد كبير من المسؤولين (المحافظين)، منهم من كان من أبنائها، ومنهم من جاء من خارجها، ومنهم من أحسن الإدارة، ومنهم من أساء إلى حضرموت وأهلها بسوء إدارته، لأنه لا يفقه شيئًا من أبجديات العمل الإداري، ناهيك عن أنه لا يفقه أن الأصل في الوظيفة العامة هو تقديم الخدمة للمواطنين بتفانٍ وإخلاص، لا التسلّط والاستثمار والاستعراض بعشرات الأطقم العسكرية ومئات الجنود، حتى في حضور ولائم أعراس أصحابه.
وفي هذا وأمثاله تنطبق التساؤلات الخالدة لشاعر الحرية أحمد مطر:
قلتُ للحاكم: هل أنت الذي أنجبتنا؟
قال: لا، لستُ أنا
قلت: هل صيّرك الله إلهًا فوقنا؟
قال: حاشا ربنا
قلت: هل نحن طلبنا منك أن تحكمنا؟
قال: كلا
قلت: هل كان لنا عشرة أوطان، وفيها وطن مستعمل زاد عن حاجتنا
فوهبناه لك؟
قال: لم يحدث، ولا أظن هذا ممكنًا
قلت: هل أقرضتنا شيئًا على أن تخسف الأرض بنا
إن لم نسدد ديننا؟
قال: كلا
قلت: ما دمتَ، إذن، لستَ إلهًا ولا أبًا
ولا حاكمًا منتخبًا ولا مالكًا ولا دائنًا
فلماذا لا تزال، يا ابن… تركبنا؟
وانتهى الحلم هنا،
وصحونا على أحداث جسام تسير بحضرموت إلى مرحلة أخرى.
وأمامنا السؤال العريض الذي عنونتُ به المقال: حضرموت… إلى أين؟