صيف حاضرة حضرمية تستعيد ألقها
مسعود عمشوش
كتب المؤرخ عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف في كتابه (إيدام القوم في ذكر بلدان حضرموت): "صيف بلدة عجيبة، يقال: إنّها سمّيت باسم قبيلة من حمير يقال لها: صيف، كانت تسكنها في سالف الزّمان. ولها جامع لا يوجد مثله بوادي دوعن في حسن العمارة. ولصيف ذكر في كلام الحداد وثناء عليها، حتّى إنّه همّ بالانتقال إليها. ولها ـ أعني صيفا ـ قلعة صعبة المرتقى، يسكنها الشّيخ باعليّ، وهو شيخ شهم، رحب الجناب، واسع الصّدر، كريم الشّيم، من ذرّيّة الشّيخ عليّ بن سعيد بن عيسى العموديّ. وفيها كثير من آل العموديّ، وناس من آل جمل اللّيل، وجماعة من السّادة آل البلخيّ نجع جدّهم ـ وهو السّيد عمر بن حسين ـ من بلخ إلى حضرموت، وأقام في وادي بن عليّ، وبه توفّي، ثمّ تفرّق أولاده؛ فمنهم من سقط إلى غرفة آل باعبّاد، ومنهم من ذهب إلى صيف، ثمّ تفرّقوا في بلاد الله. ومنهم الآن جماعة بمكّة المشرّفة، وفيها جماعة من آل باناعمة أصلهم من سيئون، وأوّل من سقط منهم إلى صيف: الشّيخ سالم باناعمة، نجع إليها بإشارة عبد الله بن عمر الطّيّار العموديّ. وسكّان صيف لا يزيدون الآن عن ألف وثمان مئة، وهي قفل دوعن.
ولها ذكر كثير في التّاريخ، وقد روي عن الشّيخ عمر بامخرمة أنّه قال لبدر بوطويرق: (حاذر على صيف، ما شاف في دوعن الّا صيف. وكانت في القرن العاشر كثير من بلاد دوعن تحت حكم ثابت بن عليّ النّهديّ، وفي سنة (۹٤٥ ه) خرج أهل صيف عن طاعته وبذلوا صيفا للسّلطان بدر بوطويرق، فأهداها بدر للشّيخ عثمان العموديّ، ثمّ ما زالت الحرب سجالا بينهم. ومن وراء صيف إلى جهة الغرب على نصف ساعة: بلاد قيدون. وفي شرقيّ صيف مسيل الواديين الأيمن والأيسر".
وممن سكن صيف آل بشرف آل بادغيش وآل باناعمه وآل بادحدح وآل باحمدان وآل جمل الليل وآل بانخر وآل باخميس وآل بازهير وآل بخضر وآل باسلاسل وآل باموسى.
ومن المعلوم أن المشائخ آل العمودي قد اختاروا في القرن الثالث عشر الميلادي بضة ثم قيدون عاصمة لسلطنتهم التي لم تصمد طويلا أمام المد الكثيري ثم القعيطي في وادي دوعن. وبينما تقع بضة في أسفل (وادي دوعن لأيمن) تقع قيدون في مدخل شعب قيدون الذي يقع بعد التقاء (وادي دوعن لأيسر) مع (وادي دوعن لأيمن). وبما أن صيف الواقعة للشرق من قيدون هي التي تطل على وادي دوعن الكبير وتتحكم فيه قبل الهجرين فقد اختارها آل العمودي مركزا رئيسيا لهم وشيدوا بها أهم (مصانعهم) أو قصورهم المحصنة والجميلة التي، في الواقع، لم يستفيدوا منها إلا للسكن وحفظ الحبوب والبذور والتمر. وربما لهذا السبب تمّ اختيار صيف اليوم عاصمة لمديرية دوعن على الرغم من أن الخريبة تعد تاريخيا عاصمة لدوعن.
وتُعد مصنعة آل العمودي في صيف معلما تاريخيا ومعماريا بارزا. وكانت، إلى جانب سبع "مصانع" أخرى في مناطق مثل بضة وقيدون وخديش وقرن ماجد، مراكز حكم ونفوذ لمشايخ آل العمودي الذين أسسوا دولتهم في وادي دوعن وامتد نفوذهم ليشمل مناطق أخرى في حضرموت. تتميز المصنعة بنمط معماري فريد، وتُعرف بمبانيها العالية الشاهقة وزخارفها التي تعكس التراث الحضرمي الأصيل.
وقد خضعت المصنعة مؤخراً لعمليات تأهيل وصيانة للحفاظ على طابعها التاريخي والمعماري، بهدف الحفاظ على هذا الموروث الثقافي وتشجيع السياحة في المنطقة. وقد أصبحت حالياً مزاراً سياحياً ومعلماً يستقبل الزوار من مختلف الأماكن، وتُعد مثالاً رائعاً على روعة العمارة الطينية في حضرموت
وبعد أن أهملت قصور صيف- مثل غيرها من قصور دوعن- فترة طويلة شرع المغتربون من آل العمودي مؤخرا في ترميمها. والذي يميّز قصور (مصانع) آل العمودي في دوعن، مقارنة بقصور بعض المغتربين الدواعنة الآخرون، أنها شُيّدت قبل هجرتهم إلى الحجاز ثم السعودية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وقد تحصل بعضهم على الجنسية السعودية ومنهم من أصبح من أثرياء المملكة، وأسهم بشكل كبير في مساعدة مواطنيهم في التعليم والتميز، وكذلك في تعمير مناطقهم. ومنهم من شيّد عقارات مهمة في كل من المكلا وسيؤن، لاسيما بعد أن فقدوا الثقة في عدن التي أممت أو صودرت فيها استثماراتهم وممتلكاتهم مرات عدة.
وإضافة إلى القصور الجميلة تشهد صيف حراكا ثقافيا وتعليما لافتا بفضل أبنائها الذين عادوا إليها بعد أن أكملوا تعليمهم مؤخرا، مثل الدكتور عبدالله أحمد قنيوي والمهندس عبدالله سعيد الشبير بادحدح رئيس اللجنة المجتمعية بصيف سابقا، والأستاذ سالم مبارك باعارمة مدير مكتب التربية بدوعن سابقا الذي ينتمي أصلا لمنطقة الجزع.
وتحتوي صيف اليوم على مكتبة مهمة تكاد تصبح اليوم مركزا ثقافية فريدا في دوعن، إنها (مكتبة عمر السبيع الثقافية) التي تضم قاعة القراءة والبرامج التدريبية بمدينة صيف عاصمة مديرية دوعن. وقد نظمت هذه المكتبة مؤخرا حفل إشهار كتاب (بلد صيف معالم وأعلام) الذي أشرف على تحريره د. عبد الله قينوي.
