حين يصبح الكحل أقوى من القلم والشهادة!!
قبل عامين من اليوم، على ما أظن، كنت أدرس في المستوى الثاني تخصص إعلام بجامعة عدن. حينها أخبرني صديق عزيز بأن أحد أهم مرافق الدولة فتح باب الاستيعاب للتوظيف في مجالات الإعلام، والقانون، والحاسوب، وغيرها من التخصصات، نظرًا لتعدد الدوائر داخل المكتب.
لم أتردد لحظة، جهّزت ملفي الذي لا زلت أتذكره جيدًا حتى اليوم، وأرفقت به صورة من شهادة الثانوية العامة، وبيان درجات المستوى الثاني، وسيرة ذاتية.
تواصلت مع صديقي وسلّمته الملف، فقال لي بثقة:
"بعد أسبوع من اليوم ستبدأ العمل معنا كمتعاقد، وبعد تخرجك سيتم توظيفك رسميًا."
فرحت فرحًا شديدًا؛ فهذه وظيفة في مرفق حكومي ورأيت فيها فرصة حقيقية لأخدم الناس في مختلف المجالات.
مرّ الأسبوع الأول، ثم الثاني، وأنا أعيش حالة من الانتظار والترقّب، أعدّ الساعات بلهفة ليرن الهاتف، إلى أن جاء منتصف الأسبوع الثالث، ولم أعد قادرًا على كبت فضولي الذي راح يطرح تساؤلات كثيرة:
هل كان صديقي صادقًا؟ أم استغلّني فقط للمساعدة في بعض أعماله الإعلامية؟
لم أتحمّل، فرفعت الهاتف واتصلت به مباشرة وسألته دون مواربة عن مصير العمل، فأجابني:
"حتى الآن ننتظر موافقة المدير على ملفك وملف شاب آخر يدرس القانون، أما البنات وبعض الشباب فقد تم قبولهم."
أغلقت الهاتف، وقلت في نفسي: ربما هناك إجراءات إدارية وقانونية تتطلب المزيد من الوقت، اصبر يا ماهر، فهذا مرفق مهم ويجب أن يتم التدقيق في كل التفاصيل.
مرت الأيام، وتحول الانتظار إلى سنة كاملة؛ سنة من الأمل بأن الدولة لن تظلم أحدًا، وأن الكفاءة ستنتصر في النهاية. كنت أؤمن وما زلت أن الشباب هم عماد المستقبل، وأننا نستحق الفرصة طالما صفحاتنا بيضاء وأيدينا نظيفة.
ثم جاء اليوم الذي تلقيت فيه دعوة لتغطية حدث إعلامي داخل نفس المكتب. قلت لنفسي: هذه فرصة لأزور المكان وأرى من تم قبوله، وأتفهم الصورة الكاملة.
ذهبت دون تردد، وغطيت الحدث بالكامل، رأيت عددًا من الفتيات وشابين أو ثلاثة. تحدثت مع أحدهم وسألته عن طبيعة عمله، فقال بثقة: "أنا موظف هنا ولدي امتيازات كثيرة."
جلست على أحد الكراسي وتأملت قليلاً، قلت في نفسي: ربما يملك هذا الشاب خبرة كبيرة أو شهادة عالية كالـدكتوراه… لا تقارن نفسك به، يا ماهر.
لكن بعد فترة اكتشفت الحقيقة: هذا الشاب لا يحمل سوى شهادة الثانوية العامة، وكذلك عدد من الفتيات تم توظيفهن فقط لأنهن يملكن علاقات، أو لأن الفتيات يتمتعن بجمال ظاهر، وليس بسبب الكفاءة أو الاستحقاق.
وفي هذا الصباح، وبعد مرور عامين، أخبرني صديقي بالحقيقة الموجعة: المدير كان يختار الفتيات بسبب جمالهن، والشباب لعلاقاتهم المناطقية، وليس لأي كفاءة أو مؤهل.
حزنت كثيرًا على هذا الفعل القبيح، وأنا لست ضد توظيف أي شاب أو فتاة على أساس الجدارة، ولكن أن يتحوّل مرفق حكومي بهذا المستوى إلى صالة عرض للمحاباة والمجاملات، فهذا عار على الدولة.
فحين يصبح الكحل أقوى من القلم والشهادة، تتحول المناصب إلى مرايا، وتغدو الدولة مجرد لافتة تتزين بأجساد الجميلات، فيما تُدفن العقول تحت ركام الإهمال والتهميش.
