السنوات الأخيرة للوجود البريطاني في الجنوب العربي
تأليف فانراج شيت*
ترجمة مسعود عمشوش
انقسام المكونات الوطنية السياسية في الجنوب العربي:
في شهر مارس سنة 1965 انقسمت القوى الوطنية؛ واختلف حزب الشعب الاشتراكي، ورابطة أبناء الجنوب العربي؛ والسلاطين المنفيين لكل من محمية لحج ومحمية الفضلي ومحمية العوالق من جهة، والجبهة القومية من جهة أخرى، حول ضرورة إعطاء الأولوية للكفاح المسلح، أو للحل السياسي في الجنوب العربي؛ وبسبب ذلك تعززت آمال حكومة حزب العمال البريطانية، في نجاح الحل التفاوضي لاستقلال الجنوب العربي مع قيادة النقابات العمالية العدنية والمعتدلين الآخرين. وأدى اصطفاف عدد من الوطنيين الجنوبيين إلى تشكيل منظمة تحرير الجنوب العربي. وبرز إلى السطح الصراع بين مختلف المكونات السياسية الوطنية في الجنوب العربي، التي يطمح كل منها في الاستيلاء على السلطة عند رحيل بريطانيا.
وأصبحت الجبهة القومية، التي باتت تواجه قوى سياسية أخرى في مقدمتها منظمة تحرير الجنوب المنافسة لها للاستيلاء على السلطة، معزولة سياسياً. وقد سبق أن وضع قرار المجلس التشريعي لعدن إطاراً للإجراءات السلمية؛ التي من خلالها سيتم تحقيق الاستقلال. وأرغمت تلك المتغيرات السياسية وزير المستعمرات البريطانية على القيام بزيارة مفاجئة لعدن في شهر يوليو 1965. وفي نهاية هذه الزيارة تم استدعاء حكومة عدن وجميع الأحزاب السياسية؛ للسفر إلى لندن للتحضير للمؤتمر الدستوري المزمع عقده في نهاية السنة.
وقد أنذرت حكومة عدن أنها ستتراجع عن المحادثات إذا لم يتم تطبيق قرار الأمم المتحدة. وفي الوقت نفسه حافظت على الاتصال الوثيق مع الرئيس جمال عبد الناصر، وأجرى المكاوي (رئيس الحكومة) مناقشات معه وهو في طريقه إلى لندن وعند عودته منها. وقد أدت تحفظات الحكومة البريطانية أثناء مؤتمر لندن، حول التطبيق الكامل لقرارات الأمم المتحدة إلى أزمة مستعصية أفشلت المحادثات. وبينما تجاوز إصرار حكومة عدن آمال المجلس التشريعي لعدن، وُصف المكاوي بأنه عميل لعبد الناصر من قبل الصحف البريطانية المحافظة، التي قدمته كشخص يرزح تحت ضغوطات مصر، ويسعى إلى تقويض الحكومة المستقرة في عدن. ونتجت عن زيارة المكاوي للقاهرة للتشاور مع ناصر وتعبيره عن امتنانه لجمال عبد الناصر في قاعة المجلس التشريعي شكوك بريطانيا. وأكد البيان السياسي لحكومة عدن أن السلطة يجب أن تسلم لممثلي الشعب الحقيقيين المنتخبين من جميع أنحاء البلاد، ويجب أن يتم تطبيق قرار الأمم المتحدة كاملاً.
تعليق العمل بدستور عدن:
وفي تلك الفترة ضاعفت الجبهة القومية من عمليات المقاومة المسلحة؛ بهدف الخروج من عزلتها السياسية. وسبّب ذلك انهيار الأمن والنظام، وأصبحت حياة ضباط الأمن والمدراء الآخرين في خطر، وتم تفجير محول كهربائي بقيمة ۱۰,۰۰۰ جنيه إسترليني، ونُسِف أنبوب للبترول. ومع زيادة وتيرة العنف لم يبق مكان آمن في عدن، ولم تبادر حكومة عدن إلى إدانة تلك الهجمات العنيفة من قبل الجبهة القومية، بل إنها أوصت بجعل الجبهة القومية واحدةً من الأحزاب السياسية.
ونفذ صبر الإدارة الاستعمارية حينما تم اغتيال رئيس المجلس التشريعي لعدن بطريقة همجية، وألغى المندوب السامي ريتشارد ترنبول فورا الدستور وحل الحكومة. وأعلن المكاوي أن رفضه لجعل نفسه عميلاً بريطانياً كلفه منصبه، وكردة فعل عنيف على إجراءات المندوب السامي المتشدد اتهم قادة المؤتمر العمالي المندوب السامي باستغلال الوضع الأمني لخدمة أهدافه السياسية، والقيام بإجراءات غرضها كبح قوى المقاومة والتحرر الوطنية.
وكانت ردود الأفعال في العالم العربي أكثر عنفاً، إذ احتجت الجامعة العربية ضد تعليق دستور عدن، ودعت حكومة العمال البريطانية إلى تطبيق قرار الأمم المتحدة. وفي رسالة موجهة إلى رئيس مجلس الأمن وصفت اثنتا عشرة دولة عربيةً الأحداث في عدن بأنها تحدٍّ سافر للأمم المتحدة، وترسيخ متعمد للحكم الاستعماري.
وفي قرار صدر في الخامس من نوفمبر 1965 شجبت الجمعية العمومية للأمم المتحدة ما يجري في الجنوب العربي، وطالبت الحكومة البريطانية بإلغاء حالة الطوارئ وجميع القوانين المقيدة للحريات العامة، ووقف الإجراءات التعسفية ضد شعب الجنوب العربي، وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين والسماح بعودة أولئك الذين في المنفى أو الذين منعوا من البقاء في البلد. كما انتقدت محاولات السلطة الإدارية لإقامة حكم غير ممثل للشعب في البلد. وناشدت جميع الدول بعدم الاعتراف بأي استقلال يُمنح دون التشاور مع الشعب وبطريقة حرة، وعلى قاعدة الحق الانتخابي العام للبالغين، واعتبر القرار أيضاً أن القاعدة العسكرية عائقٌ أساسي.
ووحّد تعليق نشاط حكومة المكاوي المعتدلة الموالية لجمال عبد الناصر مختلف المنظمات الوطنية، وتمّ إنشاء جبهة تحرير الجنوب العربي المحتل في أوائل سنة 1966 بمباركة الجمهورية العربية اليمنية والجامعة العربية ومصر. وتمّ فتح مكاتب لها بالقاهرة وتعز. وقد أدى إنشاء جبهة التحرير إلى انقسام في صفوف الجبهة القومية، وبينما تزعّم عبد الله الأصنج والمكاوي جبهة التحرير، تزعم قحطان الشعبي الفئة "المتمردة" من الجبهة القومية.
وعبّرت الجامعة العربية عن دعمها للحركة الوطنية في الجنوب العربي، وذلك في البيان المشترك الصادر في الدار البيضاء في نهاية مؤتمر القمة العربية الثالث، وأكد رؤساء الدول العربية مرة ثانية دعمهم للمقاومة الوطنية لشعب الجنوب المحتل، وطالبوا بتنفيذ قرار الأمم المتحدة.
وقام وفد رباعي من جبهة التحرير بزيارة لعدد من الأقطار العربية لمدة شهر كامل؛ بهدف الحصول على دعم الحكومات العربية للمقاومة الوطنية في الجنوب العربي، وانتزعت جبهة التحرير المبادرة السياسية من الجبهة القومية ونالت دعماً كبيراً.
وكان الهدف الأساسي لفرض الحكم المباشر من قبل المندوب السامي يكمن في احتواء العنف المتزايد في المستعمرة. وقد عجزت سلطات المستعمرة عن تحقيق هذا الهدف، فقد تزايدت الاغتيالات وأعمال القتل السياسي، وانتشرت المشاعر المضادة لبريطانيا بين صفوف الشعب كلها في مختلف أرجاء عدن، وتفاقمت كراهية البريطانيين إثر تعليق دستور حكومة عدن، وطرد رئيسها المكاوي، وقاد الطلبة الاحتجاجات ضد بريطانيا، وأغلقت المدارس والكليات.
وحاولت كل من جبهة التحرير، والجبهة القومية توظيف تلك الاحتياجات لصالحهما، وأدى ذلك إلى صراع سياسي بين الجبهتين، ولجأ كل طرف إلى تصفية زعماء الطرف الآخر ومؤيديه.
وقام المصريون بتدريب أعداد كبيرة من الفدائيين العدنيين في تعز؛ وذلك لكي ينشروا الرعب في المستعمرة، واستعانوا بخبراء إرهاب ألمان وسوفييت. وحول المقاومون مستعمرة عدن إلى مخبأ للأسلحة، واضطرت السلطات إلى استدعاء الشرطة العسكرية، التي نفذت حملات تفتيش، واعتقلت عدداً من المتسللين. ثم ارتابت السلطات الاستعمارية في تورط الشرطة المحلية في مساعدة المقاومة، واضطرت إلى تعليق المؤسسات المدنية فتذمّر السكان المحليون وقوة الأمن المدنية. وبدلاً من أن تحل الأزمة أدت تلك الإجراءات إلى تفاقمها وخلقت مشاكل ومعضلات أخرى.
جلاء الجيش البريطاني:
لقد استخدمت الحكومات البريطانية القوات المسلحة وسيلةً لتنفيذ السياسة الخارجية، لكن طرأت متغيرات استراتيجية وعسكرية، منحتها خيارات جديدة لممارسة سياساتها الخارجية. وكانت حكومة حزب العمال تخطط لتخفيض مصاريفها الدفاعية، إذ أن ميزانية القوات البريطانية كانت أضخم مما يجب، وأثقلت المصاريف الدفاعية كاهل الاقتصاد البريطاني؛ لذا قررت حكومة حزب العمال تقليل التزاماتها فيما وراء البحار، وتخفيض نفقات الدفاع من ٧% إلى ٦% من إجمالي الدخل الوطني. وقد ركز تقرير مراجعة الشؤون الدفاعية المقدم إلى البرلمان على تقليل الالتزامات العسكرية المستقبلية لما وراء البحار، وبمقتضاه صمّمت الحكومة البريطانية على تجنب القيام بأي عمليات عسكرية كبيرة إلا بالتعاون مع حلفائها. والتزمت بعدم استخدام التسهيلات الدفاعية (القواعد) في الأقطار المستقلة ضد رغبات السكان المحليين، وعدم تقديم أي مساعدة عسكرية إلا وفق مبدأ المصالح المشتركة. ولتحقيق هذه السياسة الدفاعية أعلنت حكومة حزب العمال نيتها في التخلي عن قاعدتها العسكرية بعدن بعد منح الجنوب العربي الاستقلال في سنة ١٩٦٨. وقد جاء في تقرير مراجعة الشؤون الدفاعية المقدم إلى البرلمان في فبراير ١٩٦٦، التعهد بالتخلي عن قاعدة عدن يعدُّ استثناء تاريخياً؛ فإذا كانت بريطانيا قد قلصت حجم قواتها العسكرية في جميع أنحاء العالم، لكنها لم تتخلَّ عنها كليا. وبات من الواضح أنه بعد الانسحاب من عدن سينحصر الوجود العسكري البريطاني في العالم العربي في منطقة الخليج فقط. وكان مقر القيادة البريطانية الموحدة للشرق الأوسط في عدن، ويشرف على الدفاع عن شبه الجزيرة العربية والخليج وشرق أفريقيا ووسطها وجنوبها، والجزر الواقعة في غرب المحيط الهندي، ويقع تحت قيادتها ما يقارب سبعة وعشرين ألفاً من أفراد الجيش والقوات البحرية والجوية البريطانية.
وقد سببت رغبة بريطانيا في الحفاظ على القاعدة العسكرية مزيداً من مشاعر العداء من قبل سكان الجنوب العربي، والأقطار العربية والاتحاد السوفيتي والأمم المتحدة. وأقدمت حكومة حزب العمال على تعليق دستور عدن، وطردت الوزارة المنتخبة شعبياً؛ لأنها غير قادرة على السيطرة على تلك المشاعر. كما أدَّى ذلك إلى تزايد المعارضة للوجود البريطاني في الجنوب العربي، وبات الإبقاء على القاعدة العسكرية ـ في تلك الظروف المعادية والضغوطات العالمية الشديدة ـ عبئاً ثقيلاً على بريطانيا. ومن المؤكد أنه كان لكل تلك العوامل المحلية والدولية تأثير بالغ في قرار إعلان الانسحاب من الجنوب العربي.
ووفق وزير الدولة لشئون الدفاع فإن تقرير مراجعة شئون الدفاع كان نابعاً عن الرغبة في تطبيق الواقعية السياسية والعسكرية. وقد جاء في خطاب التقديم لمجلس العموم "بعد مراجعة السياسة الدفاعية توصلت حكومة صاحبة الجلالة إلى طريقة للانسحاب من الجنوب العربي، دون المساس بالتزامات بريطانيا تجاه حلفائها وشركائها في الكومنولث، ودون التخلي عن نفوذها داخل أوروبا أو خارجها".
ولا شك في أن إعلان بريطانيا عن قرارها بالانسحاب من الجنوب العربي، قد صدم الحكام الإقطاعيين في اتحاد الجنوب العربي، والموظفين المدنيين المحليين، وكذلك الضباط العسكريين البريطانيين، واندهشت للقرار المعارضة في البرلمان البريطاني، والدول العربية المحافظة في شبه الجزيرة العربية. ودارت مناقشات صاخبة وواسعة بين حزب المحافظين وحكومة حزب العمال الحاكمة. ووصف دنكن سانديز؛ وزير المستعمرات السابق، القرار بأنه خرق فضيع لمبادئ الدبلوماسية، وقال إن على الحكومة أن تحترم على الأقل المعاهدات الخارجية المبرمة مع الحكومة السابقة.
وكان حكام اتحاد الجنوب العربي يتوقعون من الحكومة البريطانية إبرام معاهدة دفاع بعد منحها الاستقلال لدولة الجنوب العربي. وقد أضر إعلان الانسحاب البريطاني من جانب واحد بسمعة بريطانيا كدولة صديقة موثوق فيها، لاسيما أن وزير الدفاع العمالي سبق أن أكد لحكومة الاتحاد أن بريطانيا لن تتراجع عن الاتفاقية المبرمة مع الحكومة السابقة، وشعرت حكومتا المملكة العربية السعودية، والأردن بالإحباط بسبب الإعلان البريطاني، ورأتا أنه غير ملائم وجاء في توقيت سيئ إذ الأوضاع غير مستقرة، وسيعزز صورة الرئيس جمال عبد الناصر سياسياً. كما أن حكام الاتحاد كانوا قلقين بشأن عدم قدرة جيشهم على ملء الفراغ بعد الانسحاب البريطاني، فسعوا للحصول على المساعدة العسكرية لهذا الجيش من بريطانيا والدول العربية، لاسيما أن الخطر العسكري المصري كان يلوح من اليمن.
إضافة إلى ذلك كان من المتوقع أن يؤثر الانسحاب العسكري البريطاني على اقتصاد عدن؛ لأنّ الآلاف من العمال والتجار يعتمدون على القاعدة العسكرية لكسب دخلهم. وسيفقد اقتصاد عدن ملايين الدولارات وسيصبح سكانها أكثر فقراً؛ بسبب مغادرة أفراد الجيش البريطاني وعائلاتهم.
المقترحات الدستورية المقدمة سنة ١٩٦٦:
في النصف الأول من سنة 1966 قدمت الحكومة البريطانية مقترحات دستورية بشأن مستقبل دولة الجنوب العربي، تمت صياغتها من قبل خبيرين دستوريين بريطانيين زارا الجنوب العربي، وأجريا تحريات مع مئات من السكان وعقدا مناقشات عديدة، وقد اعتمدت تلك المقترحات على اتفاقية لندن لشهر يوليو 1964، وعلى دساتير البلدان العربية الأخرى. ويكمن الجانب الأهم في تلك المقترحات في تجريد حكام الاتحاد من سلطاتهم، وبمقتضاه لم يسمح لهم بالجمع بين منصب الحاكم وعضوية مجلس الوزراء، أو الجمعية الوطنية في الوقت نفسه. وسعى هؤلاء الخبراء البريطانيون إلى تأسيس دولة حديثة في الجنوب العربي، إلا أن الأحزاب الوطنية رفضت المقترحات، ورأت فيها مجرد وسيلة إمبريالية تمت صياغتها دون أخذ رأي الشعب.
وبالنسبة لقضايا المواطنة والجنسية فقد اختلفت المقترحات الدستورية لحكومة العمال عن مقترحات حكومة المحافظين السابقة؛ وقد ألغت المقترحات القوانين البريطانية بشأن الجنسية، وجعلت من مكان الميلاد والسكن معياراً وحيداً للجنسية؛ لذا جسدت فعلياً تلك المقترحات رغبة حكومة حزب العمال في إنشاء دول اتحادية واحدة.
الطريق إلى الاستقلال:
تضاءل نفوذ الرئيس جمال عبد الناصر في الجنوب العربي مع بروز الموقف الودي لحكومة العمال البريطانية تجاه الثورة المصرية، ومع ذلك يرى الرئيس المصري أن ليس هناك فرق بين السياسات الاستعمارية لحكومتي المحافظين والعمال. ولم يتأثر جمال عبد الناصر إيجابياً بأخبار الانسحاب العسكري البريطاني من الجنوب العربي، وشكّ أن هناك تعاوناً وتنسيقاً بين بريطانيا والمملكة العربية السعودية أثّرا في مسار الأحداث في الجنوب، وطالب بريطانيا بضرورة أخذ رأي الأحزاب الوطنية، وتطبيق قرار الأمم المتحدة لشهر نوفمبر 1965، وإجراء محادثات مع الجميع. وفي رأيه لم تكن النخبة الحاكمة قادرة على تشكيل حكومة وطنية مستقلة بعد انسحاب بريطانيا لوحدها؛ لذلك يتوجب إشراك جميع الوطنيين في الجنوب العربي في الحكومة.
وخلال سنة 1966 تسارع إيقاع التطورات السياسية في الجنوب العربي؛ فقد رحبت الحكومة الاتحادية بقرارات الأمم المتحدة، وتمنّت بريطانيا أن تجد الحكومة أساساً مشتركاً للمفاوضات مع جميع الأحزاب الوطنية، وخاطب وزير الدولة للشؤون الخارجية الدورة الحادية والعشرين للجمعية العمومية للأمم المتحدة قائلا: "لقد التزمنا بمنح الجنوب العربي استقلالاً كاملاً في سنة ١٩٦٩، وإذا رغبنا أن يساعد هذا الالتزام الجنوب على السير نحو الاستقلال وهو في حالة موحدة ومعقولة، ومدعوم بنوايا الدولة الطيبة، فمن الضروري أن يعمل الجميع خلال هذه الفترة المتبقية، على إنهاء التفرقة، ويجب أن يتفق أبناء الجنوب على الوسائل التي ستمكنهم من اتخاذ قرارات مشتركة بشأن مستقبلهم الخاص وبطرق سلمية. وأعتقد أن هذه المسألة تدخل كذلك ضمن سلطة الأمم المتحدة التي عليها أن تقدم مساهمة حاسمة لتحقيق هذه الأهداف".
ومع ذلك ظل كل واحد من المكونات والأحزاب الجنوبية متعصباً لموقفه الخاص، ولم يبد أي منهم الرغبة في الجلوس على مائدة التفاوض مع الحكام الإقطاعيين في الاتحاد. وفاقم إعلان موعد الانسحاب العسكري البريطاني روح التنافس بين المكونات الوطنية المختلفة للاستيلاء على السلطة؛ ولتحقيق ذلك انفصلت الجبهة القومية عن جبهة التحرير في شهر ديسمبر ١٩٦٦. وكردة فعل أنشَأت جبهة التحرير جناحاً عسكرياً خاصاً بها، باسم المنظمة الشعبية للقوى الثورية، وتم تجهيز أفراد المنظمة وتدريبهم من قبل الاستخبارات المصرية في اليمن؛ وكان ذلك بداية للدعم المصري لجبهة التحرير ضد الجبهة القومية.
وأدّت الاتهامات المتبادلة بين المكونات الوطنية إلى تدهور الأمن والنظام إلى مستوى متدن للغاية في سنة 1967، وكتب حسين علي البيومي مقالاً في صحيفة (لندن تايمز) قال فيه: "خلال الشهر المنصرم وصل الفراغ القانوني وغياب النظام إلى مستويات مرعبة، مما جعل الحياة برمتها في ميناء عدن في حالة توقف تام، كما برزت ظواهر وحشية لا يمكن تصورها. واستغرب فيما إذا كان قراء الصحيفة يستطيعون تصور ما هو شكل الحياة في ظل هذه الظروف المأساوية. هل يعتقدون حقيقة أن العدنيين المشهورين بالتجارة والفخورين بمينائهم سيتورطون عمداً في إراقة الدماء والهدم؟ هـل بإمكانكم تصور حياة لا يجرؤ شخص فيها على انتقاد هذا التهديد المصري ضد حريتنا، خشية موت مؤكد على أيدي القتلة؟ هل بمقدورهم أن يتصوروا أنه يتم إخراج عائلات بأكملها إلى الشوارع من قبل إرهابيين يمنيين مرتزقة، للمشاركة في مظاهرات يكرهونها ويشمئزون منها؟"
وفي مارس ١٩٦٧ زار جورج تومسون، وزير الدولة بالخارجية البريطانية، عدن للاستقصاء حول رد فعل السكان المحليين تجاه خطة بريطانيا لمنح الاستقلال للجنوب العربي في نوفمبر ١٩٦٧. ورداً على مطالب سابقة لحكومة الاتحاد بتوفير الدعم العسكري لدولة الجنوب العربي عندما تصبح مستقلة، قال إن خطة بريطانيا تسعى إلى توفير الغطاء الجوي فقط ضد أي تهديد خارجي. وكانت هذه الخطة ضعيفة جداً؛ لذلك طالبت حكومة الاتحاد بمنح الاستقلال في ربيع سنة ١٩٦٨، وإبرام اتفاقية دفاعية تنص على إبقاء قاعدة عسكرية بريطانية في عدن. ولم تكن الحكومة البريطانية موافقة على هذا المقترح البديل؛ اعتقاداً منها أن ذلك سيورط لندن في مستنقع أعمق.
ودعمت الجامعة العربية والرئيس جمال عبد الناصر ادعاءات جبهة التحرير بأنها الممثل الوحيد لشعب الجنوب العربي، كما منحت الدول العربية، باستثناء المملكة العربية السعودية والأردن، دعمها لجبهة التحرير. لكن بريطانيا رفضت الاعتراف بجبهة التحرير ممثلاً وحيداً لشعب الجنوب العربي. ونتيجة للتشجيع والدعم العربي قاطعت جبهة التحرير زيارة وفد الأمم المتحدة إلى الجنوب العربي في إبريل 1967. وأعلنت أن وفد الأمم المتحدة بإمكانه أن يقوم بدور إيجابي إذا اعترفت بريطانيا بجبهة التحرير ممثلاً وحيداً للشعب، واتهمت حكومة الاتحاد زاعمةً أن قبولها بقرارات الأمم المتحدة مجرد مهزلة، وأنها لم تكن تمثل الشعب.
وأعلنت إذاعة القاهرة رغبة حكومة مصر في ممارسة نفوذها لدى زعماء الثورة في الجنوب العربي، بهدف إرغامهم على الجلوس على مائدة المفاوضات، وطالبت بإلغاء حكومة الاتحاد، وبقبول جبهة التحرير كسلطة شعبية وحيدة ممثلة لأبناء الجنوب، وسحب القوات البريطانية من عدن.
ورفضت حكومة الاتحاد قبول الاستقلال في نوفمبر ١٩٦٧، وأزعج موقف عدم التعاون من قبل المكونات الوطنية حكومة بريطانيا، التي عيّنت همفري تريفيليان مندوباً سامياً في [مايو] سنة 1967، وكلفته بمهمة محددة: إجلاء القوات البريطانية ومستودعات الأسلحة بسلام، بما في ذلك الأسلحة الخاصة بالقواعد الضخمة التابعة لمنطقة الشرق الأوسط، وكلفته كذلك، أن يترك وراءه ـ إذا استطاع ـ حكومة مستقلة تضمن السلام والاستقرار في الجنوب العربي، ذلك البلد الصغير.
وعلى الرغم من أن اتحاد الجنوب العربي قد فقد جميع مقوماته كنظام قائم وقادر على التأثير في الأحداث في هذا الجزء من العالم العربي، إلا أن الخوف من الفوضى والاضطرابات جراء غياب أية سلطة معترف بها، منع الحكومة البريطانية من إلغاء نظام الاتحاد، وكان فقدان أهلية حكومة الاتحاد النتيجة المباشرة لتغيير الحكومة في لندن في سنة ١٩٦٤، ولم تسهم التطورات السياسية المختلفة منذ سنة 1965 في تعزيز نظام ذلك النظام، وقد منع ذلك المأزق السياسي المندوب السامي من تقديم الدعم لحكومة الاتحاد، ووجه كل جهوده لتكوين حكومة انتقالية تشمل كل الأحزاب.
كما واجه المندوب السامي البريطاني عقبة أخرى أمام سعيه للإيفاء بالمهام المناطة به من قبل لندن. فخلال العامين التي تم فيهما تعليق العمل بدستور عدن تحصلت المكونات الوطنية المنضوية تحت قيادة جبهة التحرير، والجبهة القومية على دعم كبير في مختلف أرجاء الجنوب العربي. وقد حصلت الجبهة القومية على دعم من المناطق الريفية، بينما كانت جبهة التحرير أكثر قوة في المدن، وحققت تلك المكونات الوطنية الجنوبية اختراقاً كبيراً داخل قوى الأمن الاتحادي؛ وامتنع عدد متزايد من الضباط والقادة العسكريين الآخرين عــن الاستمرار في تقديم الولاء لحكومة الاتحاد.
وأصبح الجنوب العربي في منتصف سنة 1967 مليئاً بالأسلحة. وعلى الرغم من الجهود البريطانية فقد تم تهريب الأسلحة من الخارج بتواطؤ قوات الأمن الاتحادية، وإضافة إلى ذلك ازدهرت تجارة الأسلحة بين الملكيين اليمنيين والحكام الاقطاعيين للجنوب العربي، الذين اعتادت بريطانيا تقديم الأسلحة لهم. وتجد تلك الأسلحة طريقها إلى القبائل المنشقة أو الجبهة القومية.
وعلى الرغم من الصعوبات التي واجهتها الإدارة البريطانية في كسب تعاون الوطنيين، أعلن وزير الخارجية البريطانية في ١٩ يونيو 1967 تاريخ استقلال الجنوب العربي، وإلغاء حظر الأنشطة السياسية للجبهة القومية، وعلقت محاكمة الإرهابيين، ووعد بتعزيز قدرات الجيش الاتحادي والقوات الجوية، وبتقديم دعم عسكري لدولة الجنوب العربي مستقبلاً.
وتزايدت وتيرة أعمال العنف والعصيان بين أوساط القوات الاتحادية؛ بسبب تعيين قائد عربي لها، ومن المؤكد أن ذلك أثبت تماماً عجز حكومة الاتحاد عن قيادة الجنوب العربي نحو الاستقلال، فسحب المندوب السامي اعترافه بها في ٥ سبتمبر 1967، وقدم دعوة للمكونات السياسية لإجراء المفاوضات. وتم عقد اجتماع بين جبهة التحرير والجبهة القومية في القاهرة مع إدراك الجميع أن بريطانيا ستتفاوض مع أي جبهة لديها التفويض بذلك.
وخلال الأشهر الأربعة الآتية، من يونيو إلى أكتوبر، برزت الجبهة القومية كجبهةٍ أقوى في الجنوب العربي، ولم تعد مستعدة لتقديم أي تنازلات لأية مكون وطني آخر. وكانت الهزيمة في حرب يونيو 1967 بين العرب وإسرائيل، قد أرغمت مصر على سحب قواتها العسكرية من اليمن، وحرمت هذه الخطوة جبهة التحرير من قواعدها في اليمن والدعم المصري المهم. إضافة إلى ذلك، لم تكن القاهرة، بعد تلك الهزيمة المشينة، في وضع مناسب لتمارس أي نفوذ على الوطنيين الجنوبيين. وأسهمت كل تلك العوامل في فشل اجتماع القاهرة، وبدأت بريطانيا في إجلاء جيشها والموظفين الآخرين من الجنوب العربي. وفي ٢١ سبتمبر 1967، تم تسليم مسؤولية الحفاظ على الأمن الداخلي لجيش الجنوب العربي. وفي ٢ نوفمبر أعلنت لندن أن آخر الجنود البريطانيين سيسحبون من عدن في آخر الشهر.
وكان جلاء القوات البريطانية من عدن يعني منح الاستقلال للجنوب العربي، وذلك على الرغم من عدم وجود استقرار سياسي، وغياب إجماع المكونات السياسية على رأي واحد.
وبعد أسبوع واحد من إعلان لندن الانسحاب من الجنوب تغلبت الجبهة القومية على مقاومة جبهة التحرير والقوات الشعبية، وذلك إثر معارك جبهوية وفصائلية عنيفة. وتم ترتيب اجتماع بين بريطانيا وزعماء الجبهة القومية في جنيف عبر وساطات الجيش. وتحت ضغوط الأحداث، تمّ التوصل إلى اتفاقية مع الجبهة القومية بشأن سلامة الأجانب والمساعدة البريطانية لدولة الجنوب العربي المستقل.
وبسبب الذعر الشديد الذي انتاب البريطانيين، فقد أكملت سحب قواتها قبل عودة زعماء الجبهة القومية من جنيف بعد المفاوضات التي دامت أسبوعاً. وبرزت إلى الوجود دولة الجنوب العربي المستقلة بعد عودة زعماء الجبهة القومية في ٣٠ نوفمبر ١٩٦٧، أي بعد يوم واحد من مغادرة آخر بريطاني البلاد.
*المصدر: Vanraj Shet: South Arabia 1959-1967
