موقف آل كثير والقعطة من آل سعود والبريطانيين في ثلاثينيات القرن الماضي

مسعود عمشوش

 

 لمس الرحالة البريطاني عبد الله فيلبي امتعاض سلاطين آل كثير - في منتصف الثلاثينات من القرن العشرين- من الاتفاقية التي أبرمت بينهم وبين السلطنة القعيطية وبريطانيا عام 1918. وقد حاول فيلبي أن يفسر هذا الامتعاض في كتابه (بنات سبأ)، قائلا: "الجدير بالذكر أن هذه الاتفاقية لم تكن في مصلحة سلاطين آل كثير، مما ملأ صدور جيل كامل منهم بالضغينة والبغضاء. مع العلم أنه - أي الجيل الحديث- لم يستوعب تماما الظروف والملابسات التي أدت إلى إبرام الاتفاقية. ولم يكن هناك أدنى شك في أن سلاطين آل كثير سوف يضعون حدا من جانبهم لهذه الاتفاقية. والمسألة كلها مسألة وقت وأسلوب. وقد تطرق بعض المتحدثين بصراحة إلى إمكانية تدخل ابن سعود لتسوية هذا النزاع، غير أنه كان واضحا للجميع انه لابد أولا من تصفية الضغائن والحسابات التي تسبب فيها البريطانيون قبل وضع حد نهائي للخلافات القعيطية/الكثيرية. وأثناء إقامتي في تريم كان الجميع يأملون تدخل ابن سعود لوضع خطة ترضي الجميع وتؤدي في نهاية المطاف إلى السلام والأمن والاستقرار". (بنات سبأ، ص353-354)

وقد ربط  المؤرخ جعفر محمد السقاف - في مقالة له نشرها في عدد جريدة (الجزيرة) السعودية الصادر بتاريخ28/2/1428 هـ، بعنوان (مبعوث الملك عبد العزيز إلى حضرموت: عبد الله فيلبي 1355 - 1936)، بين "إدراك جلالة الملك عبد العزيز لأطماع الاستعمار البريطاني في بلاد حضرموت وبين إرساله مبعوثه عبد الله فيلبي إليها عام 1355 - 1936، حيث وصل عبد الله فيلبي إلى سيؤن فرمى عصفورين بحجر واحد: اكتشاف وتمهيد طريق صحراوي بين البلدين من جهة، ونصح سلطان حضرموت وأهلها للحيلولة دون بسط بريطانيا حمايتها على حضرموت. غير أن ظروف الحرب العالمية الأولى أسقطت حضرموت لقمة سائغة لبريطانيا."

وفي تلك المقالة يورد السقاف نص خطاب مقتضب وجهه السلطان على بن منصور إلى الملك عبد العزيز - وذلك على الرغم من أن اتفاقية عام 1918 مع القعيطي وبريطانيا تمنعه من ذلك. وذكر في هذه الخطاب أن الرسالة الفعلية يحملها عبد الله فيلبي شفهيا. وهذا نص الخطاب:

الحمد لله وهو المستعان وعليه التكلان،

من سيؤن في غرة شهر رجب سنة 1355،

حضرة صاحب العظمة جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود أدام الله عزه. وبعد: فإني أهدي لجنابكم العالي سلاما عاطرا وتحية مباركة عربية، وأتمنى لكم صحة جيدة وسعادة وهناء، وأشعركم بأن الشيخ المحترم عبد الله فيلبي قد وصل إلينا من الدرب الذي نتمنى تعبيده بمساعدتكم، وقد امتزج بنا وعلم بعض أحوال قطرنا، وهو خابركم شفاهيا. وأسأل الله أن يأخذ بيدكم إلى ما فيه خير للجزيرة وأهلها وأن يجمعنا وإياكم على خير. وفي الختام تقبلوا فائق الاحترام".

أما سكان المكلا، عاصمة السلطان القعيطي، فيبدو أن زيارة فيلبي لحضرموت واهتمامه بـ(طريق الحج) البري قد أزعجهم، إذ أنهم رأوا أن طريق السيارات إلى المدن المقدسة يمكن أن يؤثر في نشاط الميناء. وقد عبروا لفيلبي عن قلقهم ذلك خلال اجتماعهم به في منزل السيد سالم المحضار، شقيق الوزير حامد المحضار الذي كان يرافق السلطان في إحدى جولاته الخارجية. وفي الاجتماع "انحصر النقاش حول الموضوع الذي ظل يفرض نفسه في كل جلسة: وهو طريق السيارات الجديد، والذي يعني الكثير جدا لمدينة المكلا، التي لديها مصالح كثيرة فيما يتعلق بموضوع الحج عن طريق البحر. وربما تكون فكرة استخدام حجاج وادي حضرموت للطريق البري الجديد غير مقبولة للعديد من الذين استمعوا إلى ما قلت. وكان بين الحضور رجل في منتصف العمر، ومن الواضح أنه تعرض لتجربة مريرة أثناء رحلته إلى مكة، لهذا كان أكثر الحاضرين صراحة في التعبير عن قناعته الشخصية بأن لا أحد من الحجاج الحضارمة على استعداد لاستعمال طريق السيارات البري حتى ولو كان أقل تكلفة مالية من الطريق البحري الحالي". (بنات سبأ، ص323)

كما يبرز موقف أقطاب السلطنة القعيطية المختلف عن موقف السلطان الكثيري ورعاياه في ثنايا الحوار الساخن الذي دار في تلك الجلسة نفسها بين فيلبي وقاضي المكلا الشيخ محمد باجنيد. وقد سرد فيلبي المناقشة قائلا: "من الواضح تماما أن الرجل كان منزعجا من احتمال ضم حضرموت إلى الأراضي التابعة لنفوذ ابن سعود. وحاولت طمأنته بعدم النية في الإقدام على هذا الأمر. غير أنني أوضحت له بجلاء تام عدم قبولي بأن حضرموت مخلاف (مقاطعة) تتبع لليمن. واقترحت أنه إذا حصرنا المناقشة في السياق التاريخي وحده يمكن أن تقودنا إلى القول بأن فلسطين يهودية واسبانيا عربية. ومن المؤكد أن المستمعين كانوا يؤيدون وجهة نظري بأن حضرموت دولة مستقلة الآن. وهي لا تنتمي إلى اليمن أو السعودية. وهاجمني القاضي ووصفني بأنني رجل هزيل وجائع. يبحث عن شكوى ومظلمة، لكنه تخلى عن عداوته قبل قليل من مغادرته المجلس". (بنات سبأ، ص323)

أما السلطان صالح بن غالب القعيطي نفسه، الذي عاد لتوه من إحدى سفراته في فترة وجود فيلبي في المكلا فقد كان حذرا، وتحفظ في الإفصاح عن أي موقف لفيلبي الذي كتب عنه: "في حقيقة الأمر، السلطان لا يتحدث كثيرا، ولا يخلو من انعدام الشفافية والعاطفة والحميمية. ومع ذلك فقد كان انطباعي عنه أنه ودود وحريص على القيام بواجباته تجاه رعاياه. وكان شغوفا لسماع أخبار ابن سعود، وما يجري داخل الجزيرة العربية. لكن، من جانبه، ليس لديه الكثير ليقوله عن إسفاره. كما أنه لم يتطرق أبدا خلال المناسبات التي جمعتنا سويا إلى مناقشة أي موضوع حساس أو شائك، ذلك أنه مدرك تماما لموقف سلطات عدن تجاهي. ولكنه لم يشر أبدا إلى أنه يعرف هذا الأمر". (بنات سبأ، ص330).

انظر كتابي (المستكشف هاري سانت جون فيلبي ورحلته إلى حضرموت).