الأبعاد الفنية في كتابات هنري مونفريد

 مسعود عمشوش

حظيت كتابات هنري مونفريد بنجاح كبير في فرنسا والأقطار الغربية الأخرى. ولا يزال معظمها يعاد طباعته اليوم من قبل عدد كبير من دور النشر. وترجمت بعضها (مثل أسرار البحر الأحمر ومركب الحشيش) إلى اللغة العربية. ولا شك في أن سبب ذلك النجاح المستمر يعود إلى توظيف مونفريد لعدد من التقنيات الفنية التي نجح بواسطتها في جذب اهتمام القارئ الغربي والعربي.

وكما سبق إن ذكرنا، شرع مونفريد في كتابة أول كتبه (أسرار البحر الأحمر) تلبيةً لطلب الصحفي والروائي جوزيف كيسل، الذي، بعد أن قرأ اليوميات والملاحظات التي كان مونفريد يكتبها فوق ظهر مركبه، شجعه على البدء في نشر كل ما يكتبه. وفي الحقيقة، قبل وقت طويل من نشر (أسرار البحر الأحمر) في سنة 1931، كان مونفريد يكتب بالفعل صفحات طويلة منذ أن كان تلميذا على مقاعد المدرسة، وأثناء انتظار القطار، أو في زنزانات السجون التي كان يتردد عليها طوال حياته. وكان يفعل ذلك بدون تعديل، وبدون أخطاء. وكان منذ البداية يميل إلى استخدام الكلمات الدقيقة والمعبرة، حتى قبل أن يصبح الكاتب الذي نعرفه. 

ومنذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى وفاته، كتب مونفريد نحو سبعين كتابا، يُصنـَّـف معظمها ضمن كتب الرحلات والسيرة الذاتية، التي لا تخلو في الغالب من بعض الأبعاد الخيالية والسرابية.

 فمونفريد يمارس في كتاباته ما يسميه بعض النقاد بالتغريب، أي تقديم بعض الظواهر الغريبة (الغرائبية) في البلاد التي يصورها. ولذلك فهو يمعن في استخدام الكلمات والمصطلحات المحلية مثل kecher و saff و askari و nakhoda في نصوصه وذلك بهدف شد انتباه القارئ ونقله إلى عالم غريب دون الانتقال من لغة إلى أخرى من خلال ترجمة تقريبية دائما وغالبا ما تجعل الكلمة تفقد ما تحمله من جوهر.

إضافة إلى ذلك، يربط مونفريد استخدامه للكلمات والتعبيرات المحلية، بجودة الكتابة الأدبية، والمحتوى الذي يضمنه كتابات مغامراته البحرية؛ فالاستخدام المتكرر لمفردات تقنية وبحرية دقيقة يبيّن للقارئ أن المؤلف متخصص فعلا في شؤون البحر، وتلغي احتمال وجود أي بعد خيالي فيما يكتبه.

كما أن مونفريد، مثل معظم الرحالة الغربيين، كعبد الله فليبي وفريا ستارك، يوظف في كتبه الرسومات والصور ليرسخ الأبعاد الواقعية ويجذب القارئ. ولا شك في أن براعة مونفريد في توظيف تلك التقنيات الفنية تعود إلى ممارسته للرسم خلال شبابه في استوديو والده أو صديقه غوغان. فقد كان مونفريد يتقن الرسم بالألوان المائية، وكان بعد الحرب العالمية الثانية يكسب رزقه من بيع لوحاته. ويبدو أنه قام برسم لوحات مزورة للرسام غوغان. وتتضمن كثير من كتبه عددا كبيرا من الرسومات والصور، وتحديدا كتابه (من هرر إلى كينيا).

ويمكننا القول إن إيقاع الجملة عند مونفريد متأثر بحبه للموسيقى منذ سن مبكرة، فهذ الحب ولد فيه استخدام التماثل في بناء الجمل والعبارات، وهو وسيلة لخلق تناسق معماري معزز باستخدام متقن لعلامات الترقيم، يذكرنا بإتقان مونفريد لعزف البيانو الذي شغف به  كثيرا ولم يفارقه طوال إقامته في مدن القرن الإفريقي، سواء في أوبوك أو أروي أو في هرر. فنحن نقرأ مثلا في (أسرار البحر الأحمر) "سيزوره القمر الغامض، الذي تخترق أشعته السحرية قاع البحر، في صمت الليالي. وأبحث عنه وأتذكر الأساطير التي أسر بها لي العربي العجوز. أراه شاحبا كقطعة من السحاب، غير مرئي تقريبا، معلقة في السماء الزرقاء". ص 131-132 

لذلك، من خلال جمال كتاباته عن البحر والصحراء ومن خلال جمله ذات الإيقاع الموسيقي الساحر، نجح مونفريد في جذب آلاف القراء في فرنسا وخارجها.

وإضافة إلى جمال لغته استطاع مونفريد أن يسحر قارئه بطريقة المزج بين الحوار وسرد الأحداث والوصف، وذلك في جميع كتبه السيرذاتية والروائية. فلكي يمنح نصوصه المختلفة الحيوية يعطي مونفريد عادةً للحوار المساحة الأكبر فيها، ويمكن أن نلمس ذلك بيسر في الأجزاء ضمّنا هذا الكتاب ترجمة لها. كما يمكننا أن نلمس في هذه الترجمات أن مونفريد يسعى إلى كسر الرتابة في نصوصه من خلال حرصه على تعاقب الفقرات المكرسة لسرد الأحداث مع الفقرات المخصصة لوصف المناظر الطبيعية التي يمكن أن تثير الملل. ويمكن القول إن أهم سمات أسلوب مونفريد تكمن في المعادلة الأدبية المتوازنة التي تمزج السرد بالوصف والحوار الذي يفتتح به كتابه (أسرار البحر الأحمر). انظر ترجمة الصفحتين الأولى من الكتاب، في الملحق رقم ١.

الصفحتان الأولى والثانية من أسرار البحر الأحمر

أول اتصال مع البحر الأحمر

ترجمة مسعود عمشوش

-لا يا سيدي لن تذهب إلى تاجورة!

-ولكن يا سيادة المحافظ، كل التجار العرب يمكنهم الذهاب...

-لا أريد أن أجادل، هل تسمع؟ أنت لست عربيا، أنت فرنسي. لم يمض على وجودك في جيبوتي ألا ستة أشهر، فقط، ولا تريد إلا أن تفعل ما يحلو لك. يجب أن تستفيد من نصائح من سبقوك هنا على الأقل، صدقني. ولكن لا، أنت لا تريد الاستماع إلى أي شخص. يحلو لك تماما أن تتصرف بجنون، تحت أشعة الشمس الساطعة، بدون خوذة، وفي المقاهي التي يرتادها الصوماليون. ألا تخجل من أن يناديك العمال من أدنى المستويات باسم محلي؟

-لا أشعر بالخجل من ذلك بأي حال من الأحوال، بل على العكس. لكن ما يؤلمني هو معرفة رأي هؤلاء الأشخاص في الأوروبيين، وأنا أبذل قصارى جهدي حتى لا أكون ضمن أولئك الأوربيين.

-إذن رأي هؤلاء المتوحشين يهمك أكثر من رأينا؟

-ربما.

- أنا لا أحب الثوار أمثالك. إذا كانت المستعمرة تسيء إلى أفكارك، فلا شيء يمكن أن يكون أبسط من رحيلك: هناك قارب إلى فرنسا في غضون ثلاثة أيام.

-سيدي الوالي، لقد طلبت منك فقط الذهاب إلى تاجورة.

-مرة أخرى لا يا سيدي، لن تذهب. 

-حتى بدون موافقتك؟

-ماذا تعني؟

-أريد أن أقول إنني أتفهم جيدًا إحجامك عن تحمل مسؤوليتك من خلال السماح لي بالذهاب إلى بلد يفلت من سلطتك. ولذلك فمن الأفضل أن أذهب إلى هناك دون علمك.

-أنت لا تعوزك الوقاحة.

-دعنا نقول فقط إني لم أقل أي شيء، لأن وجودي في تاجورة سيقلقك كثيرًا...

-تقلقني... تقلقني؟... إذن تعتقد أنني سوف أنزعج بشأن شخص مثلك؟ إذا كنت تريد أن تُذبح، فهذا شأنك، وسوف تستحق ذلك...

-شكرا سيدي المحافظ. يشرفني أن أحييك،

**

في ظل هذه الظروف قمت برحلتي الأولى إلى تاجورة. قبل أربعين عاما، كانت جيبوتي شبه جزيرة رملية، تنتهي بجزيرة صغيرة من الجزر الميتة التي كان يلجأ إليها صيادون نادرون في أيام العواصف. وكانت الشعاب المرجانية تغطي ممرا واسعا في الساحل، مما يتيح الوصول إلى حوض طبيعي عريض. وعلى بعد ستة كيلومترات إلى الداخل تلوح واحة تشير إلى وجود طبقات من المياه الجوفية.

واليوم، تبدو جيبوتي وكأنها مدينة بيضاء بالكامل وذات أسطح مستوية. وتبدو وكأنها تطفو فوق سطح البحر عندما نراها تبرز من الأفق، مع اقتراب السفينة. ثم تدريجيا نشاهد الخزانات المعدنية، وأذرع الرافعات، وأكوام الفحم، ونتبين أخيرًا معالم المدينة، إنه الوجه القبيح لحضارة الغرب المفروض عل الغربيين نقلها معهم إلى كل مكان.

وإلى اليمين ترتفع جبال كبيرة داكنة اللون مثل جدار ضخم يطل من الجانب الآخر من خليج تاجورة، ويحمي بمنحدرات البازلتية العالية هذا البلد الدانكالي الغامض وغير المستكشف، والمأهول بالقبائل المتمردة.

وخلف المدينة، هناك صحراء من الحمم السوداء، مغطاة بالشجيرات الشائكة، وتمتد على مسافة 300 كيلومتر من العزلة القاسية حتى هضاب هرار. وتتوقف الحضارة أمام هذه الطبيعة الشرسة التي لا تعطي شيئا لحياة مخلوقاتها. فقط العيسائيون، المتوحشون والقاسيون، يعيشون هناك كبدو، ويحمل كل منهم رمحا وخنجرا، ومستعدون دائمًا للقضاء على المسافر الأبيض الذي لم تقتله الشمس.

ومع ذلك، هناك سكة حديدية رفيع تخترق هذا البلد الحار: إنه الخط الرابط بين جيبوتي وأديس أبابا. وقد نسينا تماما الرجال الشجعان الذين فقدوا حياتهم لشق ذلك الخط. وتوفي معهم في البؤس الفرنسي شيفنيو، الذي قام بوضع مخطط هذا الإنجاز الفرنسي.