بطولة الانحياز للقيم الإنسانية الكبرى في عرف ملشان أريم!


لعل حالة الفوضى، والتشظيات والانقسامات، والتحديات الكبيرة التي تعاني منها المجتمعات في بعض الأزمنة والتي تتهدد الوطن وقضاياه الكبرى: كالهوية، والوجود، والسيادة، واللحمة الوطنية ونسيجها الاجتماعي وما يتهددها من سلالية وقومية ومناطقية ومذهبية، دفعت بالروائي الشبواني الصاعد "علي البعسي"، إلى الإيغال في التاريخ اليمني القديم، زمن ما قبل سيف بن ذي يزن ومقاومة اليزنيين للغزو الحبشي؛ كون التاريخ يمثّل القلعة الحصينة، والعاضد الأمثل للهوية التاريخية والجمعية التي يمكن اللجوء إليها في مواجهة خطابات التشظي والطائفية في مثل هذه المرحلة من الحرب اليمنية الراهنة.
 أوغل الروائي البعسي في التاريخ اليمني القديم، مصطحبًا معه معطيات الحاضر وحيرته وأسئلته، وإشكالياته، والتباساته، مقدمًا متخيلًا تاريخيًا، يحاول توظيفه هو ورموزه وأبطاله وأمكنته، لإنتاج دلالات ذلك الخطاب الروائي، من خلال تسريد التاريخ أو تخييله، وإضفاء ملامح  الحاضر ومعطياته وقضاياه على الماضي، أي "مماهاة الماضي بملامح الحاضر" بتعبير الدكتور والناقد عبدالحكيم باقيس، وذلك للبحث عن أفق، وبصيص أمل، يمكن الاهتداء به، للخروج من مأزق الحاضر ومشكلاته، ورسم ملامح المستقبل وآماله، عبر حركة ارتداديه معاكسة، أي الذهاب بالحاضر وخطاباته ونزعاته ومعطياته إلى الماضي، وذلك في روايته البكر "على خطى ملشان أريم"، وهي من إصدارات دار نشر عناوين للعام 2024م، في(121) صفحة من المقاس المتوسط.
بتعدد صوتي، وبلغة سردية تقريرية، يغلب عليها أسلوب الحوار بخطاباته المتعارضة، الذي يحتل ثلثيها تقريبًا، وبخط سردي أفقي وباسترجاعات نادرة، يقودنا البعسي عبر رحلة بطولية برفقة "لهمان بن يحصب" بطل الرواية، وقائد جيش قبيلة ضيفتن، ليحكي لنا عن عرف بني ملشان وحروبهم ومواجهتهم للغزو الحبشي لليمن في القرن الرابع الميلادي، وملشان أريم هو ملك اليزنيين وأحد حلفاء الحميريين الذي خاض العديد من المعارك حتى وحّد القبائل اليمنية في عهده. ينطلق الحكي على لسان السارد المحوري "لهمان بن يحصب" الذي يحكي بطريقة سِيريّة واضحة من حيث الأدوار والوظائف، عن لحظات نشأته في بلاد "سرو" وطفولته، وحديثه عن أبيه وأمه، ومروره بعدة اختبارات لإعداده في مرحلة الشباب، حتى آخر معركة خاضها مع بني ملشان ضد الأحباش. فيظهر من خلال أحداث الرواية مُنحازًا لقيم البطولة والفروسية والشجاعة والعدالة ونصرة المظلوم ووحدة الصف، ومعليًا من شأنها، وثائرًا على الخونة والمتآمرين والمتخاذلين، ومدينًا الانشغال بالمعارك الجانبية وصراعات الجبهة الداخلية وكل ما يضعفها، ومخلصًا لعرف ملشان وبنيه. 
ينسج الروائي أحداث هذه الرواية من خلال تحريك الشخصيات الرئيسية للأحداث، ولعبها أدوارًا مهمة في الحبكة الرئيسة للرواية، كبطلها "لهمان بن يحصب" قائد  جنود قبيلة "ضيفتن"، والقيل "معد" ظل ملشان في "ضيفتن"، والخبير بعرفه، وبأخبار القبائل والبلدان، ومساعده "جرهم"، و"شرحبيل" ملك اليزنيين، والقيل "عمير بن نمران" حاكم قلعة الشرق، و"مسرور" الحاكم المحلي القبلي لقلعة "الروك" القريبة من البحر، والقائد "أشوع" أخو الملك "شرحبيل"، و"أسعد" وزير الملك، ومولاه "بديع"، وهناك شخصيات ثانوية لعبت أدوارًا هامة في الحبكات الثانوية مثل: ريدان، وملكة اليزنيين شبوت، والأميرة وعد، ومبروك، وسعيد تاجر الحطب، والتاجر اليوناني، والجارية الحبشية، وبركات.
تتضافر الحبكة الرئيسة للرواية مع الحبكات الفرعية التي تتمظهر خلالها حكايات إطارية مثل (حكاية المولى بديع ونجاته من الموت بصخرة ذات السلاسل، وحكاية جارية التاجر اليوناني وطفلها وظلمه لهما، وحكاية إحباط مؤامرة إحراق سوق عبدان...)، لتشكّل معًا انحيازًا وانتصارًا للقيم الإنسانية الكبرى في المجتمع اليزني المحكوم بعرف ملشان.
من خلال أحداث الرواية التي جرت في أمكنة جغرافية تاريخية استمدها الكاتب من النقوش مثل:(عبدان، ظفار، نجران، سرو ...)، يُلمح الغرض الرئيسي للرواية الذي سعى مؤلفها لإيصاله ولفت الانتباه إليه بطريقة تلميحية تفهم من السياق، وهو ضرورة الحفاظ على وحدة الصف، وتوحيد الجبهة الداخلية، وتكاتف الكل في مواجهة العدو الأجنبي الذي يترصد الجميع ويتهدد وجودهم، وإدانة الانشغال عن العدو الحقيقي بالمعارك والصراعات الجانبية، التي تضعف الجبهة الداخلية، وتؤخّر الانتصار، وتُمكّن العدو من فرض سيطرته على البلاد كلها. 
وتدعو الرواية إلى الاستفادة من كل الطاقات، ورفض سياسة التهميش والإقصاء، ورفض اعتبار أبناء العمومة أعداء، وتوجيه السلاح إلى بعضهم البعض؛ فأبناء العمومة في الواقع إخوة وهم الظهر والسند، وهذا ما ثبت فعلياً حينما كاد أن ينهزم اليزنيون أمام الأحباش، لولا مساندة أبناء عمومتهم "بني لحيعة يرخم" وبقية القبائل اليزنية الحميرية، بقيادة القيل "شرحئل يقبل" الذي ظهر فجأة فأحال الهزيمة إلى نصر.
نظراً لتعدد شخوص الرواية تعددت خطابات، فهناك خطاب الحرب وانتصاراتها، وهزائمها، وخياناتها، وتحالفاتها، وبطولاتها، وخسائرها،  حيث تشكّل الحرب تيمة رئيسية، وهناك خطاب الموقف من الآخر، وإشراكه أو تهميشه، مساندته أو خذلانه، وهناك خطاب التمييز الطبقي (الملوك، الأقيال، جند بني ملشان، الموالي، العبيد)، وحقوق الأقليات(الموالي، العبيد) والانتصار لها، يلملم ذلك كله خطاب الانحياز للقيم الإيجابية الكبرى والانتصار لها التي تبرز في خطابات التأكيد على الهوية، وحفظ سيادة البلد، والحفاظ على عرف وتقاليد ملشان (النظام في الدولة) وموجّهاته وقيمه كالعدالة ونصرة الضعفاء والمظلومين، وفرض النظام ورفض التمرد عليه، ورفض الخيانة ومحاربتها، وإشراك أبناء العمومة، والحفاظ على وحدة الصف و تماسك الجبهة الداخلية في مواجهة العدو الأجنبي، وإدانة الخلافات والصراعات الداخلية والانشغال بها على حساب القضايا الكبرى، ورفض سياسة الإقصاء والتهميش، ورفض الظلم، وسياسة الوصاية والاستئثار بالثروة والسلطة على حساب تضحيات الآخرين.
وبما أن الرواية تحتل مكانة رفيعة في مفهوم الناقد للأدب بوصفها سلاحًا فعّالًا من أسلحة الأدب، وجنس أدبي قدير على تشخيص صراع الفرد والجماعة بما يملكه من مرونة وانفتاح، يضطلع فيه الكاتب الحر والملتزم بمسؤولية الدفاع عن القيم الإنسانية الإيجابية والتمسّك بها والحفاظ عليها، كونها أحد الوسائل التي يعوّلون عليها في بناء المجتمع الذي يحلمون بالعيش فيه، والثورة والفضح والتعرية والإدانة وتفكيك منظومة القيم السلبية التي تعوق رحلة الإنسان بحثًا عن تحقيق تطلعاته وآماله، لذلك كله تلعب الرواية دورًا هامًا في تشكيل قيمنا ومعتقداتنا، من خلال سرد القصص التي تُبرز نماذج وقيم إيجابية أو سلبية تثير مشاعر التعاطف معها أو ضدها، فالرواية عندما تحتضن القيم الإنسانية الإيجابية تصيب قلب الجدوى من الأدب، وتنتج معرفة مختلفة تتصف بأنها ردًا على القيم المضادة أو السلبية التي يغرق فيها المجتمع. 
وغني عن البيان ما للقيم الإيجابية من أهمية على حياة الإنسان وطمأنينته وانسجامه وتوازنه، وضرورتها لوجود الإنسان وتطوره، سنحاول الكشف عن بطولة الانتصار للقيم الإيجابية الكبرى التي حفلت بها هذه الرواية، والتي لها علاقة مباشرة وقوية بما يَحلمُ به الفرد في صراعه مع الواقع الذي يعيشُ فيه، لما لها من دلالات مهمة تجيب عن تساؤلات هذه المرحلة، وتسهم في حماية القيم الإنسانية الإيجابية ومواجهة القيم السلبية. 
بناءً على ما سبق فقد سعت الرواية منذ الوهلة الأولى وعبر شخصية بطلها لهمان بن يحصب إلى الانتصار لكثير من القيم الإيجابية الكبرى، التي جُرّفت في خضم الحرب اليمنية الراهنة، ففي ظل الفوضى التي تعصف بوضعنا الراهن، سعى بطل الرواية إلى الانحياز والانتصار لعدد من القيم الإنسانية الكبرى منها:
- *قيمة الحفاظ على العرف والنظام وفرضه*: نلحظ ذلك من خلال قبض لهمان على المولى بديع عند محاولة هروبه وتمرده على عرف ملشان "ركضنا بكل قوانا عبر طرق وعرة ومختصرة، وكنا كالسباع التي تطارد فريستها حتى أمسكناه"(ص9). ويتكرر التأكيد على تلك القيمة من خلال إخماد لهمان – أيضًا- لتمرّد وعمالة مسرور على عرف ملشان، وتكوين مليشيا في الشرق تعمل خارج نطاق عرف دولة بني ملشان بدعم خارجي من بعض التجار الذين ارتبط معهم بأعمال مشبوهة فجمع كثير من أبناء القبائل وفرض نفسه بالقوة، حيث أدرك لهمان خطورة ذلك وضرورة مواجهته فورًا فأشار على القيل عمران بمواجهته " أيها القيل، اسمعني لبعض الوقت فما سأقوله مهم. إن مسرور أخطر مما تتصور، ويخطط لتنفيذ تمرد شامل في الشرق والجنوب...الخطر كل الخطر على الشرق فأنصاره هناك كثر وهم كل يوم في ازدياد بفضل الأموال الطائلة التي يمنحها له بعض التجار. يجب مواجهته أيها القيل قبل أن يقوى أكثر ويصبح حينها القضاء عليه مستحيلًا" (ص٤١)، فتوجه لهمان بمساندة أشوع فقضى على مسرور وأخمد تمرده، "فصلت رأسه عن عنقه بسيفي... وأقمت العدالة وحصلت على شرف الانتقام للجارية بيدي لا بيد غيري"(ص50). كما تُبرز من خلال هذه الحادثة قيمة العدالة ونصرة المظلوم، حيث يدافع لهمان بن يحصب عن الجارية وطفلها من ظلم التاجر اليوناني، ويُحرّرهم من قيود العبودية، ويُؤكّد على ضرورة احترام حقوق جميع أفراد المجتمع، بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية. فالعدالة ونصرة المظلوم من القيم الإنسانية الكبرى التي انتصر لها بطل الرواية. 
- *قيمة الاصطفاف الوطني ووحدة الصف:* من القيم الإيجابية الكبرى التي أكدت عليها الرواية وسعت للانتصار لها في أكثر من موضع قيمة الاصطفاف الوطني، ووحدة الصف وتماسك الجبهة الداخلية وإدانة كل مظاهر إضعافها، كإثارة الخلافات الداخلية داخل البيت اليزني التي حاول لهمان تجنبها استجابة لنصيحة القيل معد الذي قال له: "اتركوا شؤون القصر وخلافاته ما استطعتم" (ص١٨)، فرفض إثارة خلافات القصر حين طلب منه الوزير أسعد عند لقائه بالملك شرحبيل، الوشاية بالقيل عمير بن نمران، حاكم الشرق وابن عمومتهم، والإشارة على الملك بإقالته بدعوى ضعفه وتخاذله "أريدك يالهمان أن تحدّث الملك شرحبيل يوم الغد عن القيل عمير وتخاذله في الشرق... وإن استشارك في أمر الشرق فأشر عليه بإقالته"(ص٦٥)، فيسعى لإقصاء أبناء عمومته ليحتكر بني ملشان الحكم "إن واقع البلاد اليزنية اليوم يا بن يحصب لا يرضينا واستمراره عبر بقاء بعض الأقيال في مواقعهم سيؤدي إلى إضعافنا أكثر وتمكين العدو منا، الأمر جاد والوضع لا يحتمل التأخير ويتطلب تولي بني ملشان ذاتهم أمور الأقاليم بعد إزاحة أبناء عمومتهم" (ص٦٤). ويتكرر الانتصار لقيمة الاصطفاف الوطني وضرورة تماسك الجبهة الداخلية- أيضًا- من خلال موقف كبيرة اليزنيين شبوت الرافض لتحريض الوزير أسعد تجاه أبناء عمومته "لا عدو لنا اليوم سوى الأحباش، ظهر فينا من لا يرى ذلك ويرى القريب عدوًا محاولًا اقحامنا بمعارك داخلية... ستزيدنا ضعفًا. أعلم أن الوزير حرضك على أبناء عمومتنا بدل أن يحرضك على الأحباش، وطلب منك الحديث في حضرة الملك بما يؤجج الخلاف، فلا تفعل ذلك" (ص٦٧، ٦٨). فالرواية عمومًا تُجسّد قيمة الوحدة الوطنية في أبهى صورها، حيث يتكاتف اليزنيون صفًا واحدًا تحت قيادة ملكهم شرحبيل وقائد جيشهم لهمان، لمواجهة عدوٍّ يحاول النيل من سيادتهم ووجودهم، رغم محاولات بعض بني ملشان تفكيك تلك اللُحمة التي باءت بالفشل.
- *قيمة احترام الآخر:* من القيم الإيجابية الكبرى التي تسعى الرواية للانحياز لها قيمة احترام الآخر المختلف معه من أبناء البلد وعدم اجتثاثه أو شيطنته أو إقصائه وتهميشه، لأنك ربما ستحتاج له يومًا ما، يبرز ذلك من خلال معارضة الوزير أسعد إشراك بني عمومتهم، قبائل بني لخيعة يرخم، وبني نمران، في مواجهة الأحباش، بدعوى أنهم أخطر على بني ملشان من الأحباش، بل" يرى ضرورة مهاجمتهم قبل الدخول في أي حرب، والسيطرة على الشرق والشمال باسم بني ملشان، حجته في ذلك تأمين ظهورنا من أي عملية غدر قد يقومون بها بعد أن نغادر عبدان لمواجهة الأحباش" (ص٧٣)، فعلى الرغم من محاولة إقصائهم وتهميشهم وعدم إشراكهم في مواجهة الأحباش إلا أنهم لم يخذلوا أبناء عمومتهم من بني ملشان بل قام شرحئل يقبل كبير بني لحيعة يرخم ومعه قومه وعدد من القبائل اليزنية حين" علم بخروج أبناء عمومته من بني ملشان القتال الأحباش فصاح في القبائل وأتى على رأسها ليكون إلى جانبهم" (ص١١٢) فحقق النصر لهم وأنقذهم من هزيمة محققة. وهنا يظهر موقف الآخر (أبناء العمومة) وتغليبهم للمصلحة الوطنية على كل شيء. فاحترام الآخر وإشراكه وعدم إقصائه قيمة كبرى  انحازت الرواية لها وأدانت سياسة الإقصاء والتهميش والاجتثاث، لأن الوطن بحاجة لتكاتف جهود كل أبنائه في مواجهة الأخطار التي تتهدد الجميع. 
- *قيمة الحفاظ على السيادة:* من القيم الإيجابية الكبرى التي انحازت لها الرواية، قيمة الحفاظ على سيادة البلد وعدم منح أي تدخل أجنبي، (الأحباش، والرومان)، الفرصة باستغلال الصراعات الداخلية، وحالة التفرق لتحقيق أطماعهم ومصالحهم وانتهاك سيادة البلد والتحكم فيه، والبحث عن الحاكم الضعيف لا القوي، وذلك عندما غضبوا من تقلّد يوسف أسار للعرش الحميري في ظفار بمساندة اليزنيين "الأحباش والرومان لا تريد الملك القوي بل الضعيف. تريد التابع الذليل لهم ولملكهم"(ص٥٣). ويتكرر التأكيد على هذه القيمة والانتصار لها لأهميتها في رفض الارتهان للأجنبي حيث رفض الملك شرحبيل عروض الأحباش بموالاتهم مقابل إبقائهم له على ملكه ومساعدتهم له في إدارة البلاد باسم ملك أكسوم العظيم، فغضب وقال لهم "لن أكون جسر المرور لأطماعكم، ولن تحكموا شعبي من خلالي" (ص٩٤). وأن انتهاك السيادة وتسلط العدو الأجنبي ليس بقوته بل باستغلال الخلافات الداخلية وبحالة التمزق والتفرق التي يعاني منها الوطن، يقول لهمان "تفرقنا كعرب ساعدكم ولولاه لما تجاوزتم شبرًا في أرض العرب"(ص93)، كما أن هذا الأجنبي ينتهك سيادة البلد ويعبث بنظامها وعرفها حينما يرى التخاذل والضعف من قبل بعض رموز السلطة والحكم، وهو ما يتجلى في موقف التاجر اليوناني الذي لا يعترف بملك ملشان ولا بعرفه قائلًا:"أنا يوناني ولايهمني عرفك، ولا ملكك"(ص٢٩)، بل يتجرأ ويهدد ويتوعد "كان التاجر مستمرًا في ترديد عبارات الوعيد بثقة تعجبت منها، وكأننا في وطنه لا في بلاد اليزنيين"(ص٢٩). وعلى كل فسياسة التدخلات الأجنبية وانتهاكها لسيادة البلدان تتكرر بأكثر من صورة عبر الأزمان، وتنطبق على أغلب التدخلات الخارجية في كثير من البلدان اليوم وهذه القضية من قضايا واقعنا وإشكالاته الراهنة التي أدانتها الرواية وحاولت الانتصار لها فقفزت بها إلى الماضي عبر تخييل التاريخ.
- *قيمة الشراكة والعدالة:* من القيم الإيجابية الكبرى التي انحازت الرواية لها قيمة الشراكة والعدالة وإدانة ثقافة التبعية المطلقة وسياسة الوصاية باسم العرف أو النظام والاستئثار بالسلطة والثروة واحتكارها من قبل فئة في حين بقية الفئات مجرد أتباع يعيشون على الهامش، وذلك من خلال شخصية المتمرد "مسرور" الذي يجعل من ذلك سببًا لتمرده على الوضع بدعوى أن آباءهم وأجدادهم، وباسم العرف مجرد أتباع لبني ملشان ووقود لحروبهم، "لنا الموت يا بن يحصب فيما لهم الانتصارات ومكاسبها. هم الملوك العظماء، ونحن على هامش التاريخ مكاننا... لا يابن يحصب لن يظل الوضع على هذا الحال، وآن الأوان لقبائل الشرق والجنوب لتقول كلمتها، وأن تحكم كل قبيلة أرضها، وتنعم بما فيها وحدها" (ص٣٧)، فسياسة الوصاية والاستئثار بالسلطة والثروة، وجني المكاسب من قبل بعض قوى النفوذ على حساب تضحيات الآخرين من قضايا مجتمعنا المعاصرة التي وظُف التاريخ لإدانتها. 
- *قيمة الوطنية الحقة:*  تعد هذه القيمة من أهم القيم الكبرى التي تناولها الرواية، وأدانت كل مظاهر الخيانة والعمالة وشراء الذمم والتآمر على الوطن، يتجلى ذلك في كشف وتعرية ومواجهة عصابة الخونة الممثلة في المولى "بديع"، و"محشوم"، وتاجر الحطب "سعيد"، و"مبروك"، و"مسرور" الذين يعملون لصالح الأحباش، حيث ثبتت عمالة بديع بتدبيره مؤامرة إحراق سوق عبدان مع تاجر الحطب سعيد وعبده مبروك ومحاولة قتل القائد أشوع "بعد التوسع في التحقيق اكتشفنا أن هناك أمرًا أعظم كان يُرتّب له ويتمثل في اغتيال القائد أشوع" (ص79)، وقتل بديع لوزيره أسعد في خيمته أثناء المعركة مع الأحباش "فعلتها يا بديع، لكن ما ساعدك في حقيقة الأمر هو غباء الوزير أسعد... إنه أول من دفع ثمن حماقاته"(ص٩٨). وثبتت خيانة محشوم ومسرور وعمالتهم للأحباش بوجود محشوم مع مجموعة من الأحباش حيث يعمل معهم مقابل المال في قلعة الروك عندما استولى عليها لهمان "وجدنا معهم سيء الصيت محشوم ابن قبيلة ضيفتن. كان في الغرفة هو وسبعة من الأحباش وتتواجد أمامهم طاولة فرشت عليها عدد من الخرائط الخاصة بالبلاد اليزنية"(ص٤٨)، فبلغوا القائد نمران بخيانته "لقد وجدنا الخائن معهم أيها القائد لحظة إمساكنا بهم"(ص٥١). ومن مظاهر الوطنية الأصيلة التي ست الرواية للانحياز لها قيمة الإخلاص للوطن ونظافة اليد وعدم المتاجرة به أو الارتزاق على حسابه، يتجلى ذلك في موقف لهمان الذي عرض عليه التاجر اليوناني الأموال مقابل خدمة إخماد تمرد عبيده، لكنه رفض ذلك معلنًا أن ما يقوم به هو ما يمليه عليه واجبه الوطني، ومستنكرًا على من يبيعون ذممهم بالأموال المشبوهة فيخونون الوطن ويتعاونون مع الأعداء "أخرج كيسًا من النقود من تحت معصمه المربوط بخاصرته ونظر لي بنظرة فيها من الاستعلاء.
-    خذ هذا المال أيها الجندي وأعد الأمور إلى نصابها. 
-    أعد مالك أيها التاجر وسأقوم بما طلبت دون مقابل، فهذا عملي. اندهش من ردي فيبدو أن الجميع هنا لا يتعامل إلا بالمال"(ص27، 28).
- *قيمة الهوية:* تتمثل هذه في الهوية اليزنية وأقيالها التي انحازت لها الرواية وحفلت بها في مواطن كثيرة، كهوية يفتخر بها وبشجاعة وقوة ولُحمة قومها وإنجازات أقيالها كمحاولة للإجابة عن سؤال الهوية وتحدياته الراهنة، وكذا أهمية حضور الهوية ووضوحها في مواجهة العدو الأجنبي، فبفضل إنجازات ملشان العظيم وتوحيده للقبائل، صنع دولة ووطن وهوية يزنية مهابة أمكن الافتخار بها "ظهر فينا ملشان العظيم... من صنع لليزنيين أول وطن... لايتجرّأ على المساس به أي عدو"(ص١٧)، ويكرر الانحياز للهوية اليزنية والانتماء لها وصناعتها والافتخار ببطولاتهم من خلال كثرة الانتصارات التي حققوها "كان الحماس يتملكنا وحديث النصر ما يتبادله الجند، فنحن اليزنيون، ومتى خسر اليزنيون حربًا؟"(ص90)، ويقول مودعًا جبل الزهود "سأروي لك حينها بطولاتنا ومآثر لنا خطّت حيث مر اليزنيون" (ص21). وبقدر ما حاولت الرواية الانتصار للهوية اليزنية والتأكيد على الانتماء لها عمومًا بقدر ما ركزت على الاحتفاء برموز تلك الهوية (الأقيال)، منذ عتبة العنوان حتى آخر صفحة فيها، يأتي هذا الاحتفاء ربما ضمن موجة التأثر بالدعوة الجديدة "حركة الأقيال" التي ظهرت مؤخرًا كردة فعل على السلالية الحوثية باسم الهاشمية، وتظهر مثل هذه الدعوات للإجابة عن سؤال الهوية في خضم الأزمات التي تعاني فيها المجتمعات "أزمة هوية"، وتواجه تحديات كبيرة إزاء كل ما يهددها، فيتم اللجوء إلى التاريخ وإلى إحياء تلك القوميات الجامعة لمواجهة حالة التشظي والانقسامات والتمييز الطائفي الذي يعصف بمجتمعنا اليمني في وقته الراهن.
- *مناصرة الجار والصديق:* والجار والوقوف إلى جانبه، ودفع الأخطار التي تترصد الجميع، من القيم الكبرى التي تبرز في مساندة اليزنين لإخوانهم الحميريين في ظفار وطرد الأحباش وإعادة الملك الحميري يوسف بن أسار إلى سدة الحكم من جديد وعدم خذلانه وتركه لمواجهة الأحباش بمفرده "سنتجه إلى ظفار بعد هزيمة الأحباش، هكذا أخبرنا الملك شرحبيل وأخبرنا بأننا سننضم هناك للملك الحميري يوسف أسار وسنناصره حتى نطرد الأحباش من ظفار، بل ومن كل البلاد العربية" (ص٩٦) وهو ما تحقق في نهاية المطاف على يد القيل شرحئل يقبل. فواجب النصرة للجار والأخ تجاه الأخطار الخارجية التي تتهدد الجميع من أهم القيم الكبرى في عرف ملشان، وهو ما يحب أن يسير عليه أحفادهم اليوم في مواجهة الأخطار التي تتهدد البلد برمته.
- *قيمة الأمن وحفظه واستتبابه:* نظرًا لحالة الفوضى الانفلات الأمني وعدم الاستقرار نتيجة الحرب التي تعصف بالبلد في الوقت الحالي، جاء الانحياز لقيمة الأمن وحفظه واستتبابه، يظهر ذلك عن طريق القائد لهمان الذي كُلف بمسؤولية أمن مدينة عبدان "فاستتب الأمن في مدينة عبدان مؤخرًا بشكل ملحوظ، وامتلأت سجون مقرنا باللصوص، ونصرنا المظلوم على الظالم، ورددنا لكل ذي حق حقه، ضبطنا أسعار السوق، وكبحنا جشع التجار، فأشاد الجميع بضيفتن وجندها، وأحبنا كل من في عبدان"(ص75، 76).
- *قيمة السلام والحلم بواقع أفضل:*
-على الرغم من خطاب الحرب والصراعات التي تهيمن على أحداث الرواية إلا أن قيمة السلام والتوق له والحلم بواقع أفضل هي القيمة الإيجابية الكبرى التي تسعى الرواية للانحياز لها، يبرز ذلك في وداع لهمان لصديقه ريدان عند مقتله" اذهب أيها الطيب... وتحلم بواقع رايته بيضاء تعانق الجميع روح السلام، سيتحقق حلمك يومًا ما على أرض العرب يا ريدان"(ص111، 112).
وعلى كل فقد سعت الرواية للدفاع عن كل ما تقدم من القيم الإنسانية الإيجابية والانحياز لها والتمسّك بها والحفاظ عليها، كأحد الوسائل التي يُعوّل عليها في بناء المجتمع الذي يحلم بطل الرواية بالعيش فيه وبث الأمل بغد أفضل مهما كان الواقع قاتمًا، كما سعت الرواية بفضح وتعرية وإدانة وتفكيك منظومة القيم السلبية أو "القيم المضادة" التي تعوق رحلة بطلها في البحث عن تحقيق تطلعاته وآماله.