الترجمة الشفوية وممارستها في المجال الدبلوماسي
أ.د. مسعود عمشوش
أولا- الترجمة الشفوية
في هذا العصر، الذي تحول العالم فيه إلى قرية صغيرة، بات من المستحيل أن نعيش بمعزل عن الثقافات والحضارات والأخرى، وأصبح الانفتاح على الآخر ضرورة حتمية. والترجمة هي الأداة اللازمة للتواصل اللغوي والثقافي والحضاري بين الأمم والشعوب. لذا من البديهي أن تكتسب الترجمة اليوم أهمية بالغة في حياة مختلف الشعوب. ومثلما سَبَقَ التواصل اللغوي الشفوي التواصل بالكتابة سبقت الممارسة الشفوية للترجمة ظهور الترجمة التحريرية. ومع ازدياد حركة تنقل الأفراد والاجتماعات واللقاءات العملية والعلمية والدبلوماسية، والمفاوضات والمؤتمرات الدولية التي يشارك فيها أشخاص من لغات مختلفة، تضاعفت كذلك أهمية الترجمة الشفوية.
وفي الحقيقة، غالبا ما يميل عامة الناس إلى الخلط بين الترجمة التحريرية والترجمة الشفوية. وإذا كان هناك عدد من السمات المشتركة بين الترجمة التحريرية والترجمة الشفوية، يوجد بينهما أيضا كثيرٌ من الفروقات التي علينا إدراكها والإلمام بها. ومن المعلوم أن اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية تمتلكان كلمتين مختلفتين لتسمية كل من الترجمة التحريرية والترجمة الشفهية. فمقابل الترجمة التحريرية لدينا في الإنجليزية: (translation)، وفي الفرنسية (traduction). ومقابل الترجمة الشفوية تستخدم اللغتان الفرنسية والإنجليزية كلمة (interpretation) مع اختلاف النطق.وعمليا هناك فروقات عدة بين الترجمة التحريرية والترجمة الشفوية. ففي الترجمة التحريرية، يقوم المترجم بنقل وثائق مكتوبة أو سمعية بصرية من لغتها الأصلية (لغة المصدر) إلى اللغة الهدف أو المترجم إليها، وذلك دون أن يستخدم لسانه ليترجم. أما في الترجمة الشفوية فالمترجم ينطلق من النص الذي يسمعه ويقومه بترجمته بلسانه في الآن نفسه. والترجمة التحريرية (بعدية)، أي أنها لا تتزامن مع وقت إنتاج النص الأصل، بل تقع بعده، وهذا يعني أن المترجم التحريري (the translator)، لا يعاني من ضغط الزمن والمباشرة، بل لديه الوقت الكافي للاستعانة بالمعاجم والعودة إلى نصه وتصويب ما يمكن أن يقع فيه من أخطاء. أما الترجمة الشفوية فتتم في وقت إنتاج النص الأصلي نفسه، وليس لدى من يقوم بها (the interpreter) إمكانية تصويب الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها، أو الاستفادة من أي وسيلة مساعدة كالمعاجم وغيرها. لهذا يجب أن يكون المترجم الشفوي متقنا تماما للغة المصدر واللغة المترجم إليها، وكذلك وملماً بمكونات سياق التخاطب غير اللغوية بما فيها العناصر الثقافية والحضارية، كيلا يكون عرضة لأي خطأ أو سوء فهم، إذ ليس لديه أي فرصة للعودة إلى الخلف والتصويب. ويعد هذا المطلب أساسيا لاسيما في الترجمة القانونية والدبلوماسية، ففيهما تكون للأخطاء مترتبات بالغة الخطورة. وإذا كان على ممارس الترجمة التحريرية أن يمتلك أسلوبا جميلا في الكتابة، فالمترجم الشفوي عليه أن يكون سريع البديهة وواضح النطق وقادرا على التعبير بطلاقة وتلقائية. ومن المؤكد أن ليس كل من لديه القدرة على أن يكون مترجما تحريريا جيدا يمكن أن يكون في الوقت نفسه مترجما شفويا. وفي اللغتين الفرنسية والإنجليزية يستخدمون (interpreter) مقابل (المترجم الشفوي) في اللغة العربية، وللمترجم التحريري يستخدم الإنجليز: (translator)، والفرنسيون: (traducteur). ويمكن أن نشير إلى أن هناك من يستخدم في اللغة العربية كلمة (ترجمان) للمترجم الشفوي، مثلما فعلت ريم الحجي في ترجمتها لكتاب رودريك جونز (ترجمة المؤتمرات، مبادؤها وأساليبها، ترجمة ريم الحجي)، وموراد دموكي في بحثه الموسوم بـ(الترجمة الشفوية: الأنواع والأساليب: الترجمة التتابعية نموذجا، مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات- العدد 36، 2015، ص 328)ولصعوبة الترجمة الشفوية عادة ما تركز مؤسسات تدريب المترجمين الفوريين على تدريب الطلبة على الترجمة باتجاه لغته الأم وليس العكس، إذ يُفضَّل أنْ ينقل المترجمون الشفويون، نطقا، الخطاب من لغتهم الأم إلى اللغة الهدف (الأجنبية)، وفي الواقع غالباً ما يضطر المترجم الشفوي إلى القيام بالترجمة في الاتجاهين، لاسيما عندما يقوم بالترجمة أثناء المقابلات والمفاوضات والمآدب. لهذا تفضل مؤسسات تأهيل المترجمين الشفويين قبول الطلبة الذين ينحدرون من والدين ينتميان إلى لغتين مختلفتين.
وبما أن الترجمة الشفوية تتطلب جهدا متواصلا يؤدي إلى استنزاف طاقة المترجم، عادةً ما تلجأ بعض الهيئات إلى تكليف اثنين مترجمين على الأقل للقيام بالترجمة في المؤتمرات واللقاءات الطويلة ليعملان بالتناوب، كل ربع ساعة، أو نصف ساعة. وعند تدريب المترجمين الشفويين يتم التركيز على تحليل النص الشفوي بتلقائية وسرعة فائقة تتناسب مع الحيز الزماني المتاح والمحدود، وترتيب محتواه حسب الأهمية لتيسير نقله إلى اللغة الهدف في الحال.
وفي إطار الترجمية الشفوية يتم التمييز بين الترجمة الشفهية المباشرة (simultaneous)والتي تسمى أيضا الترجمة الفورية، والتي يتم فيها النقل المباشر والفوري للكلام المنطوق إلى لغة أخرى، وبين الترجمة الشفوية التتابعية (consecutive) التي يُعطى فيها زمنٌ محدود للمترجم ليأخذ مذكرات أو رؤوس أقلام مكتوبة لما قاله المتحدث قبل أن يشرع في نقله شفويا. في الترجمة التتابعية تعد الملاحظات التي يدونها المترجم لاسيما الأرقام والأسماء والكلمات المفتاحية و(رؤوس الأقلام) مهمة للغاية. وكل ذلك يتوقف على قدرته على تدوين تلك الملاحظات المركزة بطريقة واضحة وموجزة. وقد مارست هذا النوع من الترجمة حينما قمت بمرافقة الأساتذة الفرنسيين الذين ألقوا سلسلة من المحاضرات في كليات جامعت عدن في مجال اللهجات واللغات العربية الجنوبية خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. (وقد نشرت ترجمة إحدى المحاضرات في العدد الثاني مجلة سبأ عام 1984).
ثانيا- الترجمة الشفوية في المجال الدبلوماسي
مثلما أزداد مستوى التواصل بين الأفراد في هذا العصر ارتفع كذلك مستوى العلاقات بين الدول والحكومات. ولا شك أن الترجمة، التحريرية والشفوية، تقوم بدورٍ مهمٍ في إدارة تلك العلاقات وترسيخها والحفاظ عليها، فمن المعلوم أن رجال الدولة يفضلون الحديث بلغتهم والاستعانة بمترجم حتى إن كانوا يجيدون اللغة الأجنبية – لغة الآخر. لذلك تساعد الترجمة في المجال الدبلوماسي على ضمان الارتقاء بالعلاقات الخارجية لأي دولة، وتمكنها من إجراء مفاوضات إيجابية ومثمرة مع الدول الأخرى.
وعادةً يتم هذا النوع من الترجمة داخل البعثات الدبلوماسية والسفارات والقنصليات ووزارة الخارجية، وفي مكتب رئاسة الجمهورية أو الديوان الملكي، وفي مكتب رئيس الوزراء، وكذلك داخل عدد من الهيئات والمنظمات الدولية والإقليمية. وأهم المناسبات التي نحتاج فيها للترجمة الشفوية (الدبلوماسية)، التي اخترنا أن نركز عليها هنا: اللقاءات الثنائية، الضيقة أو الموسعة حول طاولات العمل، والخطابات والمؤتمرات الصحفية وأثناء المآدب الرسمية. ويزداد الطلب على المترجمين الشفويين عندما يلتقي رؤساء الدول أو غيرهم من الشخصيات الرفيعة بنظرائهم في البلدان الأخرى أثناء الزيارات الرسمية. وإضافة إلى الإلمام التام باللغة الأم واللغة الأجنبية والقدرة على التعبير بهما بطريقة سلسة وواضحة، تتطلب الترجمة الشفوية في الأوساط الدبلوماسية اطلاع المترجم بالتطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية على مستوى العالم، وبطبيعة القضايا التي سيتناولها المتحدثون. وعلى المترجم أن يكون ملما بالبرتوكولات الدبلوماسية التي تُعد من أبرز العناصر المؤثرة في هذا النوع من الترجمة، والتي تجعلها أكثر صعوبةً وتعقيدا من الترجمات الأخرى، فهذه البرتوكولات الدبلوماسية تنظم العلاقات بين الدول وعادةً ما تضع الخطاب الدبلوماسي في خانة السرية. ونتيجة لذلك، عادةً ما يعاني المترجم الشفوي من صعوبات جمة، أهما تردد كثير من الموظفين في تسليمه الوثائق التي يمكن أن تساعده على الاستعداد لإنجاز مهامه. (انظر علم الترجمة ترجمة د. حميد العواضي، الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة، صنعاء 2007، ص77)كما أن هناك بعض الشخصيات الرسمية التي تفضل أن تصطحب دائما مترجمها الخاص، وفي هذه الحالة يمكن أن يتولى المهمة مترجمان، ويصبح على كل مترجم القيام بمهمته في اتجاه واحد، ويمكن أن يحدث ذلك أيضا حينما يكون أحد طرفي المحادثة ملماً بلغة الطرف الآخر. ومع ذلك، في اللقاءات الرئاسية الرسمية، يتم في الغالب الاتفاق على مترجم واحد يتوافق عليه الطرفان. ويذكر كريستوفر ثيري، الذي عمل رئيسا لقسم الترجمة الشفوية الفورية في وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية وأستاذا للترجمة الفورية في المدرسة العليا للترجمة والترجمة الفورية في جامعة باريس3، أنه في “ما يخص رئاسة الجمهورية، فأن القاعدة العامة أن أحد المترجمين يكون منا أو ممن أبرمنا معه عقدا للعمل، ويكون حاضرا في اللقاء. وإذا كان الزائر مصحوبا بمترجمه الفوري فإننا نتقاسم مهمة الترجمة. والقاعدة الدبلوماسية تقضي أن يصبح كل مترجم فوري هو الناطق باسم رئيس دولته. وهذا ما يفضي غالبا إلى مواقف قلما تكون مرضية، حيث يكون المترجم مدعوا للتعبير بلغةٍ غير لغته الأم. وقلما نجد بالفعل ثنائي اللغة أصلا، لهذا فأن المترجمين الذين يعرف أحدهما الآخر جيدا يتبادلان الأدوار، ويترجم كل واحد منهما إلى لغة رئيس دولته”. (انظر علم الترجمة، ترجمة د. حميد العواضي، ص69)
ومن العوامل التي تعطي للترجمة الشفوية في المجال الدبلوماسي طابعا خاصا: طبيعة اللغة الدبلوماسية التي تميل في كثير من الأحيان إلى عدم المباشرة والصراحة وربما إلى الإيحاء والغموض و(اللف والدوران)، في الوقت الذي يكون على المترجم أن ينقل خطابا مفهوما وواضحا، ولا يترك مجالا للبس أو سوء الفهم والتفسير، وهو أمر يمكن أن تكون له مترتبات مكلفة، لاسيما حينما ينعكس مضمون الخطاب في شكل اتفاقيات ومعاهدات ومذكرات تفاهم بين الدول والحكومات. وعلى المترجم أن يكون قادرا على تمييز الخفايا والفوارق الدقيقة في لغته الأم واللغة التي يترجم منها أو إليها، بما في ذلك المصطلحات والألفاظ العامية التي عادةً ما تبرز في الأحاديث الشفوية، لاسيما اللقاءات شبه الرسمية التي تتم خلال المآدب، إذ أن الطرفين كثيرا ما يمزجان في حديثهما بين الجد والهزل، ولا يترددان في تبادل النكات والحكايات التي تتطلب نقلها إلى اللغة الأخرى جهدا مضاعفا من المترجم، الذي لن يكون نصيبه من الأكل غير المشاهدة. وأتذكر أنني عندما قمت بالترجمة خلال مأدبة رسمية أقامها رئيس الوزراء في مطلع الثمانينات من القرن الماضي كان عليّ أن أترجم لرئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية ذكريات المهندس حيدر العطاس الذي يؤكد أنه كان أيام دراسته في غيل باوزير يبدأ يومه مع زملائه (بدهف موتر عمشوش) لينقلهم معه إلى المدرسة الوسطى.
وقد يحدث ألا يكون المتحدث أصلا ماهرا في التعبير عن نفسه بوضوح، أو لم يحضّر بشكل جيد للحديث، وفي هذه الحالة يتدخل المترجم لإعطاء ما يقوله بعض الترتيب وربما الجمال، وهذا يعني أن على المترجم الشفوي في المجال الدبلوماسي أن يضفي على ترجمته الصياغة الجميلة والواضحة حتى وإن كان الأصل عفويا وملتبسا. وفي الحقيقة من الصعب على أي مسؤول أن يلجأ إلى الأسلوب الدبلوماسي الملتوي إذا كان يحدث مخاطبيه من خلال الترجمة. وكثيرا ما تسبب (الطريقة الدبلوماسية الملتوية والغامضة في التعبير) شيئا من الحرج للمترجم الذي يدرك تماما تعمد لجوء المتحدث للطريقة الملتوية في صياغة أفكاره، ويحاول عبثا الحفاظ على ما يريده المتحدث من غموض. وأحيانا قد يضطر المترجم إلى طلب مساعدة أو توضيح من المتحدث (حتى إن كان رئيس الدولة) ليتجنب سوء الفهم والترجمة الخاطئة، وإن كان الأمر محرجا. ومن خلال تجربتي يمكنني القول إنه ليس من الممكن دائمًا طرح سؤال على المتحدث لتوضيح مما يقصده بالضبط خلال جلسة مفاوضات أو خطاب أمام حشد كبير من الناس.
من أهم ما ورد في الترجمة وورد فيه ذكر حيدر العطاس
...
ومن العوامل التي تعطي للترجمة الشفوية في المجال الدبلوماسي طابعا خاصا: طبيعة اللغة الدبلوماسية التي تميل في كثير من الأحيان إلى عدم المباشرة والصراحة وربما إلى الإيحاء والغموض و(اللف والدوران)، في الوقت الذي يكون على المترجم أن ينقل خطابا مفهوما وواضحا، ولا يترك مجالا للبس أو سوء الفهم والتفسير، وهو أمر يمكن أن تكون له مترتبات مكلفة، لاسيما حينما ينعكس مضمون الخطاب في شكل اتفاقيات ومعاهدات ومذكرات تفاهم بين الدول والحكومات. وعلى المترجم أن يكون قادرا على تمييز الخفايا والفوارق الدقيقة في لغته الأم واللغة التي يترجم منها أو إليها، بما في ذلك المصطلحات والألفاظ العامية التي عادةً ما تبرز في الأحاديث الشفوية، لاسيما اللقاءات شبه الرسمية التي تتم خلال المآدب، إذ أن الطرفين كثيرا ما يمزجان في حديثهما بين الجد والهزل، ولا يترددان في تبادل النكات والحكايات التي تتطلب نقلها إلى اللغة الأخرى جهدا مضاعفا من المترجم، الذي لن يكون نصيبه من الأكل غير المشاهدة. وأتذكر أنني عندما قمت بالترجمة خلال مأدبة رسمية أقامها رئيس الوزراء في مطلع الثمانينات من القرن الماضي كان عليّ أن أترجم لرئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية ذكريات المهندس حيدر العطاس الذي يؤكد أنه كان أيام دراسته في غيل باوزير يبدأ يومه مع زملائه (بدهف موتر عمشوش) لينقلهم معه إلى المدرسة الوسطى.
وقد يحدث ألا يكون المتحدث أصلا ماهرا في التعبير عن نفسه بوضوح، أو لم يحضّر بشكل جيد للحديث، وفي هذه الحالة يتدخل المترجم لإعطاء ما يقوله بعض الترتيب وربما الجمال، وهذا يعني أن على المترجم الشفوي في المجال الدبلوماسي أن يضفي على ترجمته الصياغة الجميلة والواضحة حتى وإن كان الأصل عفويا وملتبسا. وفي الحقيقة من الصعب على أي مسؤول أن يلجأ إلى الأسلوب الدبلوماسي الملتوي إذا كان يحدث مخاطبيه من خلال الترجمة. وكثيرا ما تسبب (الطريقة الدبلوماسية الملتوية والغامضة في التعبير) شيئا من الحرج للمترجم الذي يدرك تماما تعمد لجوء المتحدث للطريقة الملتوية في صياغة أفكاره، ويحاول عبثا الحفاظ على ما يريده المتحدث من غموض. وأحيانا قد يضطر المترجم إلى طلب مساعدة أو توضيح من المتحدث (حتى إن كان رئيس الدولة) ليتجنب سوء الفهم والترجمة الخاطئة، وإن كان الأمر محرجا. ومن خلال تجربتي يمكنني القول إنه ليس من الممكن دائمًا طرح سؤال على المتحدث لتوضيح مما يقصده بالضبط خلال جلسة مفاوضات أو خطاب أمام حشد كبير من الناس.