تخطيط عدن الحضري بين النظام والعشوائية

كانت عدن، منذ مراحلها الأولى كمدينة حديثة، نموذجًا للتخطيط الحضري الدقيق والمنظم، حيث سارت عملية بناء شوارعها وأحيائها في البدايات الأولى لتخطيطها وفق استراتيجية واضحة تهدف إلى تحقيق التوازن بين الجمال المعماري والوظائف العملية .. كل شارع، وكل مبنى، وكل مرفق عام، كان يخضع لمعايير صارمة وإشراف دقيق من قبل بلدية عدن، التي لعبت دورًا حاسمًا في الحفاظ على هذا النظام الحضري المتقن، لم يكن هناك مجال للعشوائيات، ولم تكن هناك إضافات غير مرخصة يمكن أن تفسد النسق العام للمدينة.
عُرفت عدن بشوارعها المخططة بعناية، والتي راعت الانسيابية في الحركة المرورية والتنظيم العمراني المدروس .. كانت البنية التحتية مصممة بحيث تضمن سهولة الوصول إلى المرافق العامة، وتراعي الجوانب الجمالية والمعمارية، مما جعلها واحدة من أكثر المدن العربية تحضرًا في ذلك الوقت .. المباني، سواء السكنية أو التجارية، كانت تخضع لقوانين صارمة تحكم ارتفاعاتها، تصاميمها، ومواقعها، بحيث تحافظ على هوية المدينة وتخدم سكانها بأفضل صورة ممكنة.
لكن هذا المشهد تغيّر بعد عام 1994، إذ بدأت العشوائية تتسلل إلى تفاصيل الحياة في عدن، ليس فقط في البناء والتخطيط العمراني، بل في مختلف مناحي الحياة اليومية .. تراجع دور الجهات المختصة في الإشراف والتنظيم، وتقلصت سلطة البلدية أمام موجة من البناء غير المرخص، ما أدى إلى ظهور أحياء غير مخططة تفتقر إلى البنية التحتية المناسبة والخدمات الأساسية، هذه العشوائية لم تؤثر فقط على الطابع الجمالي للمدينة، بل أثرت أيضًا على جودة الحياة لسكانها، حيث ازدادت مشكلات المرور، وتفاقمت الأزمات الخدمية، وظهرت تحديات بيئية واجتماعية لم تكن موجودة من قبل.
لم تقتصر الفوضى على التخطيط العمراني فحسب، بل انعكست على مختلف جوانب الحياة اليومية، من الأسواق التي لم تعد تخضع لنظام واضح، إلى انتشار مظاهر الفوضى في الإدارة والخدمات العامة .. أصبح التعدي على الشوارع والأرصفة أمرًا مألوفًا، وفقدت المدينة جزءًا كبيرًا من هويتها التي ميزتها لعقود.
اليوم، تقف عدن أمام تحدٍّ كبير يتمثل في استعادة نظامها الحضري وإعادة تنظيم بنيتها التحتية بما يتلاءم مع مكانتها التاريخية.
واليوم، وعلى الرغم من الآمال التي يحملها أبناء عدن في استعادة مدينتهم لمكانتها السابقة، إلا أن هذا الحلم يبدو بعيد المنال في ظل غياب سلطة الدولة وضعف سيطرتها على مفاصل الحياة .. إن إعادة النظام إلى عدن يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية، وإدارة قوية قادرة على فرض القوانين واستعادة دور وهيبة المؤسسات الرسمية، لكن واقع الحال يشير إلى أن الطريق لا يزال طويلًا وشاقًا، وربما أقرب إلى المستحيل ما لم تحدث تغييرات جذرية تعيد للدولة سلطتها وتضع حدًا للفوضى التي أصبحت سمة الحياة في المدينة.