وصف فيلبي للأحساء ووادي حضرموت ٢/٢

١-وصف فيلبي لمدن وادي حضرموت سنة ١٩٣٦

مسعود عمشوش

بما أن فيلبي كان يسعى إلى اكتساب الشهرة من خلال الاستكشاف، فمن البديهي أن يحرص، في كتاب سرد رحلته إلى حضرموت (بنات سبأ) على رفد العالم بمعلومات علمية جديدة، لاسيما في مجالات الجغرافيا، والعمران، والتركيبات الاجتماعية والأنساب القبلية. ورغم وصول عدد لا بأس به من الرحالة الغربيين إلى حضرموت طوال عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، ففيلبي الذي طاف في حضرموت في منتصف عام 1936 يؤكد "أن موضوع الكتاب يدور في معظمه حول بلد ليس معروفا إلا لنفسه". (بنات سبأ، ص13) ولاشك في أن فيلبي قد استطاع خلال رحلاته السابقة في شبه الجزيرة العربية، لاسيما تلك التي قام بها للأحساء سنة ١٩١٧، أو للريع والخالي سنة ١٩٣١، أن يكتسب مهارات وخبرة كبيرة في طرق رصد المعالم الجغرافية للمناطق التي يزورها. 

وقد بيّن لنا فيلبي بعض المصاعب التي واجهته في وضع الخرائط عند سرده لزيارته إلى بلدة هينن الواقعة في غرب وادي حضرموت، وذلك على النحو الآتي: "ثمة نظرة للخرائط الموجودة الآن تبيّن أنه ما زال هناك مجال كبير لعمل مسح مفصّل. وأفترض أن النقاط الأكثر أهمية عن موقع هينن الحقيقي في الوادي قد ثبتت من قبل باحثين سابقين. لذلك كنت مهتما بمراجعة الدقة العامة لأجهزتي. وكللت جهودي بالنجاح بعد أن انقضت الساعتين المخصصتين للنوم. وقد كان المساء عند وصولنا وضاءً، والنجوم ساطعة بكل رونقها وعظمتها. لكن الظروف الجوية الناجمة عن حدوث عاصفة بعيدة في الشمال منعتني من التقاط توقيت غرينتش من القدس... وعندما أصبح كل شيء جاهزا لممارسة هوايتي الخاصة بالنجوم، اكتشفت أن النجم القطبي كان يختفي خلف مقدمة المنحدر الصخري الضخم الذي يقف شاهقا فوق المدينة. وهذه الحقيقة حتمت عليّ تحريك جهاز مقياس الزوايا إلى موقع مختلف، وتكبدت كل المشاق لإعادة تعديل مستواه. وبعد فترة تغلبت على كل العوائق بعناد وصبر. وبقي لي فقط انتظار النجوم المعروفة في الفضاء المحاطة بالسحب ورؤيتها تتحرك بسرعة من حماية سحابة إلى أخرى. وكان الوقت متأخرا حينما أصبح ضميري صافيا، وذلك بعد أن حددت بالقلم موقع هينن على الخريطة. ولحسن الحظ، فأن ضجة العمليات اللوغاريثمية داخل عقلي لم تزعج أحلامي بقضاء إجازة في أرض حضرموت، ولن يُفسِد هذا الشعور السخيف قيامي بواجبي تجاه الإنسانية والعلم. وهو شعور سرق مني ساعات من النوم تحت السماء الملبدة بالسحب في الأسابيع الماضية". (بنات سبأ، ص197-198)  

ومن المعروف أن فيلبي قد اكتسب شهرة كبيرة بفضل الخرائط التي بدأ في إعدادها منذ وصوله إلى جزيرة العرب في عام 1915. وكما هي عادته، حرص فيلبي على إلحاق صور للخرائط التي قام بإعدادها خلال تلك الرحلة بكتابيه: (بنات سبأ) و(مرتفعات الجزيرة العربية).

وفي خرائطه كان الرحالة عبد الله فيلبي يحرص كثيرا على تحديد مواقع الطرق والوديان والدروب التي تخترق الصحاري والهضاب والجبال. ومن المعلوم أن من أهم دوافع مجيء هاري سانت جون فيلبي إلى جنوب شبه الجزيرة العربية كان البحث عن طريق البخور القديم، وهو دافع نجده لدى معظم المستكشفين والرحالة الغربيين الذين قدموا إلى المنطقة قبل الخمسينات من القرن العشرين. ويتبيّن لنا هذا الدافع حينما يقدم لنا فيلبي طريق البخور عند خروجه من نجران باتجاه شبوة في منتصف سنة 1936، قائلا: "إن المسار الذي سلكته الإبل التابعة لنا يتطابق تقريبا مع طريق حضرموت، الذي لا يزال مطروقا على طوله على الرغم من تقطع حركته، وما زالت علاماته يمكن رؤيتها أينما كانت الأرض خالية من الرمل بدرجة كافية لينطبع عليها أثر السير بصورة دائمة. وعلى هذا الخط لا يكاد يوجد شك في أننا الآن نمشي فوق واحد من الطرق العديدة التي سلكتها تجارة التوابل القديمة في العربية السعيدة".(بنات سبأ، ص57-58)

وقد رأى فيلبي أن مسار الطريق الذي سلكته قوافل البخور قبل مئات السنين هو أنسب مسار لطريق الحج البري الذي يقترح تعبيده للسيارات للربط بين حضرموت ومكة. وقد بدأ في الترويج له منذ وصوله إلى مدينة القطن، حينما أطلع السلطان علي بن صلاح القعيطي وحاشيته على رسم توضيحي لهيكل الطريق، وأكـّد لهم أن طوله 1500 كيلو مترا، ويحتاج اختراقه إلى عشرة أيام، وستين جالونا من البترول لكل عربة. (بنات سبأ، ص203) 

وبحكم مهارته في مجال التخطيط ورسم الخرائط استطاع فيلبي، خلال رحلته إلى حضرموت، أن يقدم وصفا جغرافيا مفصلا لكثير من مدنها الرئيسة. فهو، مثلا، قدم عرضا متكاملا لتخطيط مدينة تريم كما كانت في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي. وبيّن أسماء حاراتها وضواحيها وأسوارها وبواباتها وأسواقها، وذلك على النحو الآتي: "تتكون مدينة تريم من عدة أحياء وقرى قديمة متفرقة التقت مع بعضها نتيجة حركة العمران والنمو والتوسع حول المركز. والمعلم البارز للمدينة هو منطقة السوق، التي تتكون من أزقة ضيقة ومنازل لا تلفت الأنظار كثيرا ما عدا مجموعة من قصور زعماء قبيلة آل الكاف الواقعة في الناحية الشرقية. ويقع حي النويدرة على جانبي السوق، ويمتد في اتجاه الشمال الشرقي حتى بوابة دمون. أما الجانب الآخر من السوق فيقع فيه حي الخليف الذي يمتد في اتجاه الجنوب الغربي نحو عيديد، ويتضمن المقبرة الرئيسة وقصورا جميلة. وتطل الناحية الشمالية من السوق على مجرى السيل. ويلي حي النويدرة من جهة الجنوب حي الحاوي وهو عبارة عن جمهورية مستقلة لإحدى عائلات آل الحداد. بينما ينحصر حي الخليف بين مجرى السيول وحي النويدرة من الناحية الشمالية. وبالنسبة للحصن السلطاني القديم في تريم، فقد تمّ تشييده فوق جرف منخفض، ويحيط به السوق وحي الخليف ومجرى السيل. ويعرف الحصن بقصر الرناد. وقد أعيد بناؤه في عهد السلطان عبد الله، وتبدو عليه آثار التجديد من الخراب الذي لحق به وبالسوق ومجرى السيول في السنوات الأخيرة. ويلاحظ الزائر أن هناك سورا يحيط بتريم وتتخلله العديد من البوابات التي تسمى (السدد). وتطل كل واحدة من تلك البوابات على إحدى الطرق التي توصل من وإلى المدينة. وقد أعطي لكل واحدة منها اسما خاصا: فبوابة أنبار تنفتح على طريق عيديد، وبوابة جادين تطل على جهة سيؤن، وبوابة لوميع على طريق الشحر، وسدة سرور بن سعيد على طريق عينات وقبر هود، وأخيرا تنفتح بوابة محبوب على الطريق المتجه شمالا إلى دمون".(بنات سبأ ص354-355)

ومثل جميع الرحالة الغربيين الذين زاروا شبام في النصف الأول من القرن الماضي وأطلقوا عليها: (مدينة ناطحات السحاب)، توقف فيلبي بشكل مطول أمام ظاهرة البناء الرأسي التي تميّزها. وخلال تقديمه لتخطيطها حاول أن يقدم تفسيرا لتشييد بيوتها من عدة طوابق بعكس ما هو متّبع في مدن حضرموت الأخرى. وقال "حددت أبعادها الأفقية بواسطة مساحة قاعدة العمود الذي تقف عليه. ولاحظت أنها قد نمت رأسيا في محاولة نبيلة من سكانها للتغلب على عائق المساحة الطبيعي. ونتج عن هذا المجهود سلالة من البنائين الذين من المؤكد أنهم يعرفون شيئا عن فن البناء بالطين. وتجدر الإشارة إلى أن شبام هي الوحيدة من مستوطنات حضرموت التي تتكون كل مبانيها تقريبا من خمسة أو ستة طوابق. ولا أظن أن أيا منها به سبعة طوابق. ولكني لا أستطيع أن أجزم بذلك. ومستوى السقف في المدينة تقريبا منتظم كانتظام السطح الذي نهض عليه وارتفع منه. ولإعطاء الطين قوة ضد التحلل بمياه الأمطار فإن جميع أسطح السقوف وحواجزها قد طليت بجبس [جير] صلب متماسك وأملس كالإسمنت الجيد. ويلاحظ أن قصري السلطان مطليان جزئيا باللون الأبيض من الخارج، ومنحهما هذا الطلاء تأثيرا لونيا أخاذا. ولاشك في أن هناك أسبابا اقتصادية عاقت استخدام الجبس على جميع الجدران الخارجية. وعندما تصبح شبام مدينة ثرية حقيقة لابد من تصحيح هذا النقص. وإذا ما ألبست تلك الجدران لونا أبيضا ستبرز المدينة كلها أمام بساتين النخيل الخضراء الغامقة والمنحدر الصخري ذي اللون البني المتجهم، وكأنها قصر واحد يقف فوق أرض خيالية ساحرة. والمباني الوحيدة ذات الطابق الواحد في المدينة هي المساجد. وبعضها له مميزات كبيرة مع بساطتها. ويسمى المسجد الرئيس لشبام: مسجد هارون، ويقال إن إنشاءه يرجع إلى أيام الخلافة العباسية. أما بنايته الحالية فهي بالتأكيد لا ترجع إلى ذلك العهد. لكن قد يكون المسجد قد شيّد في الموقع نفسه منذ عهد سحيق. وهناك تقدير محلي يعطي مباني الطين عمرا قدره 200 سنة تقريبا. ويبدو أن تلك المدة التقريبية هي أقصى حد يمكن أن تبلغه الذاكرة محليا". (بنات سبأ، ص212-213)

وإضافة إلى تلك الوقفة الطويلة أمام تعدد طوابق المنازل في شبام، توقف فيلبي أيضا أمام ظاهرة لافتة أخرى تتميز بها هذه المدينة الحضرمية: وهي ظاهرة تصريف المياه المكشوفة التي تتوسط شوارعها. وقد وصفها قائلا: "يتكون السوق من طريق رئيس مع عدد من الطرقات الفرعية الصغيرة الوضيعة، وفضاء صغير مكشوف تتوسطه قنوات التصريف المفتوحة الأشد اتساخا، مما يزيد الانطباع العام بعدم العناية التي تمتد إلى كل شوارع المدينة. ويبدو أن الاهتمام بالصحة والنظافة لا يثير اهتمام مواطني هذه المدينة. والمخاطر التي يتعرض لها الشخص عند مروره في الشوارع بين المنازل المرتفعة تحتاج إلى قلم (جوفينال) لكي يصفها وصفا دقيقا. وقد يكفي أن تقول: إن كل شارع به مجرى (قناة) تصريف مكشوف، يجري وسط الشارع، ولا أعلم إلى أين تقود. ويبدأ التصريف من المنازل إلى الخارج ومن ثم إلى داخل هذه القنوات عن طريق الهبوط من أعلى منتهيا في منخفض. والذي يخرج الأوساخ إلى أسفل كتف أسمنتي يشيد في مستوى الأرض. والغرض منه حماية الأساس للمنازل من التلوث ثانية بواسطة التصريف العائد، وينثر الأخير في اتجاه تصريف الشارع. فإذا حدث أن مررت بنقطة كهذه عند لحظة عملية التصريف المنزلي، فمن الأفضل أن تمر أبعد ما يمكن في الجانب المقابل. وما ذكر حتى الآن يوضح أن التجهيزات الصحية في شبام تحتاج لجهد كبير لتطويرها. ولحسن الحظ فهي تعد المدينة الوحيدة في حضرموت التي يخالف نظامها الصحي كل مبادئ الصحة العامة والنظافة. ومن الطبيعي أن يفضل الأغنياء من المواطنين تشييد قصورهم في أطراف المدينة حيث يسير تصريف المنازل في اتجاه بساتين النخيل في الأسفل. وإنصافا لأهل شبام ينبغي الإشارة إلى أن مساهمتهم في تطوير المدينة تتركز في الوقت الحاضر في ضاحية [السحيل] التي تقع في الجانب الجنوبي من الوادي عند سفح الجبل. ففي هذه الأرض شُـيِّد عدد كبير من المساكن الجميلة ذات الطابق الواحد، والمطلية بالجبس الأبيض [الجير]. ويقع كل منها وسط بستان نخيل أو أشجار فاكهة. وفيه تقضي عائلات العاصمة الثرية جزءا كبيرا من فصل الصيف. وبعض هذه المساكن تتميز بالترف والبذخ، وتحتوي على حوض سباحة. وهناك واحد منها تملكه عائلة آل لعجم، وقد خصصته كليا لتسكين الزوار الأوروبيين". (بنات سبأ، ص214-215)

وعندما يصف فيلبي مدن حضرموت الرئيسة لا يكتفي بتقديم ذلك الكم الهائل من المعلومات الجغرافية عنها، بل يقوم أيضا بتصنيفها من ناحية الأهمية التجارية والثقافية والدينية، ويقارن بعضها ببعضها الآخر. فهو حين يؤكد أن "تريم هي مركز حضرموت الروحي والثقافي، وشبام عاصمتها الاقتصادية"، يعبّر عن تفضيله المطلق لسيؤن التي يقول إنها أجمل مدن حضرموت، وأكثرها غنى، وترفا، وتطورا. وقد اندهش كثيرا حينما رأى كل مظاهر الحضارة الغربية الحديثة فيها حينذاك، وقدمها قائلا: "دون أدنى شك شبام هي المركز التجاري لحضرموت مع أن سوقها أقل جاذبية بكثير من سوق سيئون. وهو أيضا أكثر تخلفاً كما هو جلي من إهماله للراحة والنظافة والزينة. وفي سيئون دخلنا منطقة أثرياء، يعيش فيها الناس حياة سهلة ومريحة. ورغم أنهم يمتلكون متع الحياة، ويستمتعون بترفها البسيط، فهم ليسوا سعداء وذلك نتيجة لبعض الأسباب السياسية. وفي الظاهر هم أغنى من منافسيهم القعيطيين، وبكل المقاييس أكثر إسرافا في صرفهم. والمضخات التي تدار هنا بواسطة المحركات الآلية التي يكثر عددها في سيؤن مقارنة بمدن غرب حضرموت. فمعظم المساكن بها أحواض سباحة ويستعمل الفائض من مائها في ري الحدائق الصغيرة المزروعة بتنوّع عظيم من أشجار الفاكهة. والسيارات أكثر عدداً هنا، والإضاءة بالكهرباء بدأت تدريجياً، وأسلوب الطهي متقن. ولكن قمة الترف هي الماء المثلج، ووجود ستة تلفونات تسهل الاتصال بين المنازل الأكثر أهمية. ولذلك، فوق جميع المدن، تظل سيئون – مع كل الشعر الذي قيل عن تريم - هي البقعة الأكثر جمالاً في حضرموت". (بنات سبأ، ص221-222)

وخلال زيارته إلى حضرموت أعجب فيلبي بطريقة البناء الطيني فيها وقارنها بأسلوب البناء في نجران. وسبق أن أوردنا بعض ملاحظاته عن الفن المعماري في حضرموت حينما قدمنا لعرضه لظاهرة تعدد الطوابق في منازل شبام. وعند تناوله لطرق البناء التقليدية التي تعتمد على مادة الطين المحلي التي يصفها بأنها شديد التماسك والمقاومة، لاحظ فيلبي بروز بعض التأثيرات الجاوية والغربية في بيوت بعض الأغنياء. وقد أبدا أسفه لقيام أحد الأتراك بتشييد نافورة غربية في استراحة أبي بكر الكاف في سيؤن. وبالمقابل أشاد بالبنائين الحضارم، لاسيما بمهارتهم في تلبيس جدران وأسطح المنازل بمادة الجير أو النورة، التي يسميها هو: جبس. وفي داخل المنازل ركز فيلبي على متانة الأعمدة الطينية أو الخشبية التي تساعد على دعم السقوف، وكذلك جمال الزخارف التي تزين قصور السلاطين ومنازل الأغنياء في سيؤن وتريم. ويمكن أن نجد موجزا لملاحظات فيلبي حول الفن المعماري الحضرمي في وصفه لقصر السلطان علي بن صلاح القعيطي في القطن، وقد بدأه قائلا:  

"كان قصر السلطان علي بن صلاح في القطن الذي شُيّد حديثاً ويتكون من ثلاثة طوابق هو مدخل لملاحظاتي لأسلوب البناء المتبع الآن في حضرموت، والذي وصل ذروته في القصرين العظيمين التابعين للسلطان الكثيري في سيؤن. وفي مظهره العام قد يبدو القصر للمشاهد أنه ذو تصميم أوربي، لكنه في الحقيقة ينسجم - بصورة مثيرة للعجب- مع المعمار المحلي الذي يقف في وسطه كما يجب أن يكون القصر. ومن المؤكد أن أسلوب البناء المحلي له ميزات عظيمة؛ فالجدران الطينية للمنازل صقلت بمنتهى الدقة، خلافا للتجصيص الطيني الخشن المتبع في البناء في نجران مثلا، وهو أسلوب معمار محلي يقترب في التصميم العام من ذلك الموجود في حضرموت أكثر من أي مكان آخر أعرفه. وإذا أردنا الإشارة إلى دلالة أفضل يمكن أن أذكر هنا أن الأسلوب العام للبناء في شرق اليمن يهدف بشكل أساسي إلى الدفاع ضد الأعداء، وكل منزل هناك يمثل قلعة في تصميمه، ونجد الظاهرة نفسها في حضرموت التي نعثر فيها أيضا على مبان ذات سمات عسكرية أقل، وميزات فنية أكثر عظمة. وهنا تكون مهمة الأسوار المحيطة بالمدينة الدفاع عن الجميع. ولاحظت أن الطين المحلي هنا شديد التماسك والمقاومة. ولدقة الصقل تبدو الواجهات الملساء للجدران الطينية وكأنها مطلية بالدهان. وعادة تتوسطها نوافذ خشبية ذات تصميم جميل، وتعلوها أقواس مغربية (مراكشية)، وأقواس على شكل قباب. وقصر السلطان ليس كعامة المنازل، فهو مغطى تماما بزخرف أبيض من الجبس [الجير] المحلي، الذي يستخدم ليس فقط للزينة ولكن لتقوية أسطح الطين ضد الأمطار. ومن مظهرها ربما يعتقد الشخص من أن تلك الحيطان مبنية من الحجر والإسمنت، ولكن في حضرموت كلها لا تستخدم الحجارة والأسمنت إلا في الأساس أو حواجز السيول. وفي الداخل تطلى الجدران بالجير، ويلون الجزء الأعلى منها بظلال رقيقة من الأخضر والأزرق وألوان أخرى للتناقض مع اللون الأبيض الباهر في الأسفل. وهناك بالطبع اختلافات لا نهاية لها في تأثيرات الزخرفة من منزل إلى آخر. ولكني لا أستطيع أن أتذكر أني قد رأيت مبنى قديما أو حديثا، خارجيا أو داخليا، يظهر ذوقا سيئا. ليس هناك أي شيء مزخرف بشكل سوقي (مبتذل) في معمار حضرموت الآن ما عدا النافورة في الحديقة الجديدة في مجمع السيد أبي بكر بن الشيخ الكاف في سيئون. وهذا هو الاستثناء الوحيد الذي أتذكره للقاعدة العامة للذوق الرفيع الهادئ. ونظرا لصعوبة الحصول على الأخشاب فأن أسقف الغرف بكل أحجامها يستلزم وجود أعمدة طينية. في بعض الأحيان تكون الأعمدة خشبية وتغطى بالطين والجير وعادة لا يزيد عددها عن عمودين. أما غرف الاستقبال مربعة الشكل في قصر ابن مرتع في هينن ففي كل واحدة منها أربعة أعمدة في الوسط. وقاعة الاستقبال في القطن تحتوي على ستة صفوف من الأعمدة التي تكون مستطيلا في وسط الغرفة. وفي جميع الحالات تقريبا تـُفضل الأعمدة الرفيعة التي لا تستهلك حيزا كبيرا من مساحة الغرفة. ولفت قصر السلطان علي بن صلاح انتباهي كمسكن له سحر عظيم. ولذا ليس من المستغرب أن يستخدمه السلطان في أوقات كثيرة من العام، مفضلا إياه على قصره في شبام الذي مع كبره يبدو عتيقا بعض الشيء وغير مريح. ويلاحظ أن الحمامات وغرف الأسرة هنا - كما رأيناها من قبل في هينن وقعوضة - تسهم في إظهار القواعد الصحية الحديثة أكثر من الشعارات والأقوال". (بنات سبأ، ص204-205)

وفي الختام، يتبيّن لنا، من خلال قراءتنا لما كتبه فيلبي عن الأحساء سنة ١٩١٧، وعن مدن وادي حضرموت سنة ١٩٣٦، أنه قد نجح في تقديم صورة متكاملة عن العمارة في الأحساء ووادي حضرموت، وكذلك الأسباب التي دفعت منظمة اليونسكو لاعتماد الأحساء ومدن وادي حضرموت شبام وتريم وسيؤن جزءا من التراث الإنساني العالمي.