اليمن والفصل السابع: الحقيقة الغائبة خلف الوصاية المزعومة
د. محمد قباطي
تتزايد في الأوساط السياسية والإعلامية، وحتى بين النخب، التساؤلات المشروعة حول حقيقة وضع اليمن القانوني والسياسي في ظل استمرار الحرب وتعدد مراكز القرار والنفوذ.
هل فقدت اليمن سيادتها بالفعل؟ وهل أصبحت، كما يُقال، "تحت الوصاية الدولية" أو خاضعة للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة؟
وما حدود الحقيقة وما مساحة الوهم في هذه المقولة التي تتكرر حتى غدت أشبه بـ"المسلّمة" في الوعي العام؟
بين النص الدولي والواقع السياسي
من الضروري أولًا أن نُفرّق بين الخضوع القانوني والنفوذ السياسي.
الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لا يعني وضع الدول تحت الوصاية أو انتزاع قرارها السيادي، بل يُستخدم حين يرى مجلس الأمن أن هناك تهديدًا للسلم أو الأمن الدولي، فيُصدر قرارات مُلزمة تجاه أطراف أو أوضاع محددة داخل الدولة المعنية.
وقد أصدر المجلس بشأن اليمن عدة قرارات منذ 2011، أبرزها القرار 2216 لعام 2015، الذي استهدف جماعة الحوثي الانقلابية كقوة متمردة تهدد الشرعية الدستورية، ولم يستهدف الجمهورية اليمنية ككيان سياسي أو قانوني.
إذن، القرارات الدولية لم تُفقد اليمن سيادتها القانونية، ولم تُخضعها لإدارة أممية أو وصاية مباشرة، بل حافظت على الاعتراف الدولي بشرعيتها وحقها في استعادة مؤسساتها.
الانقلاب الحوثي والهيمنة الإيرانية
لقد مثّل الانقلاب الحوثي على الدولة في سبتمبر 2014 المنعطف الأخطر في تاريخ اليمن الحديث؛ إذ فتح المجال واسعًا أمام إيران لممارسة نفوذ وهيمنة مباشرة على مجريات الأمور داخل اليمن، واستخدام أراضيه كمنصة متقدمة لمشروعها الإقليمي الممتد نحو البحر الأحمر وباب المندب.
تحت غطاء الميليشيا الحوثية، استطاعت طهران أن تحوّل اليمن إلى ورقة ضغط جيوسياسية تتحكم من خلالها في خطوط الملاحة والتجارة الدولية، وتبتزّ بها المجتمع الدولي ودول الجوار عبر تهديداتها المتكررة للأمن البحري العالمي.
التحالفات دفاعٌ عن القرار الوطني
أمام هذا الواقع، كان من الطبيعي أن تستعين الحكومة اليمنية الشرعية بالدول الشقيقة والصديقة، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، لمواجهة هذا التغلغل الإيراني ومخاطره المتزايدة على الأمن الإقليمي والدولي.
لم يكن ذلك تنازلاً عن القرار الوطني أو خضوعًا لوصاية خارجية، بل خيارًا سياديًا اضطراريًا لحماية الدولة من السقوط الكامل في قبضة المشروع الإيراني، وضمان أمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب الذي يُعدّ شريانًا حيويًا للتجارة الدولية.
ومن هذه المنطلقات جاءت دعوة اليمن خلال أعمال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة إلى تشكيل تحالف دولي واسع للقضاء على هذا التهديد الخطير وضمان حرية الملاحة البحرية الدولية، حمايةً للسلم والأمن الإقليمي والدولي، ومنعًا لتحول البحر الأحمر إلى ساحة ابتزاز عسكري تمارسها طهران عبر وكيلها الحوثي.
النفوذ الإقليمي ليس وصاية دولية
الخلط الشائع بين "الفصل السابع" و"الوصاية" تغذّيه حالة الإحباط الشعبي من حجم التدخلات الإقليمية في القرار اليمني.
لكن لا بد أن نفهم أن النفوذ الخارجي لا يُساوي وصاية قانونية.
فـ لبنان مثلًا يعيش منذ عقود تحت تأثير مباشر لإيران من خلال حزب الله، دون أن يكون خاضعًا لأي قرار أممي تحت الفصل السابع.
وسوريا، التي تتموضع على أراضيها منذ سنوات قوات روسية وإيرانية وأخرى تركية وأمريكية، لم تُخضعها الأمم المتحدة لأي وصاية أو إدارة دولية، رغم أن قرارها الوطني ظلّ – بحكم تداخل تلك القوى – مقيّدًا بنفوذ خارجي واضح وتوازنات مفروضة من خارج الحدود.
أما العراق، ورغم ما يعيشه من تداخل النفوذ الإيراني والأمريكي، فقد خرج رسميًا من أحكام الفصل السابع في عام 2013، ليستعيد سيادته القانونية الكاملة وإن ظل مثقلًا بتجاذبات إقليمية معروفة.
هذه الدول الثلاث – ومعها اليمن اليوم – كلها أمثلة على دول ذات سيادة قانونية مكتملة، لكنها تعاني من نفوذ إقليمي وسياسي لا يلغي شخصيتها القانونية الدولية.
نحو استعادة القرار الوطني
إن استعادة القرار الوطني لا تكون بالشجب والغضب، بل بإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس مهنية وشفافة، وتوحيد الإرادة الوطنية ضمن مشروع جامع لا يقصي أحدًا ولا يخضع لوصاية أحد، واستثمار القرارات الدولية نفسها كأداة دعم للشرعية لا كقيد عليها.
فالوصاية الحقيقية ليست تلك التي تُفرض من الخارج، بل تلك التي نقبلها داخليًا حين نُسلم قرارنا للانقسام والمحاصصة ونُضعف دولتنا بأيدينا.
خاتمة: تصحيح الفهم شرط لاستعادة الثقة
إن الإصرار على ترديد مقولة "اليمن تحت الوصاية أو الفصل السابع" دون فهم دقيق لحقيقتها لا يخدم إلا أولئك الذين يريدون تبرير العجز أو شرعنة الارتهان.
اليمن ليست تحت وصاية دولية، لكنها تواجه اختبارًا تاريخيًا لاستعادة سيادتها الفعلية عبر مشروع وطني جامع يحرر القرار من الداخل، ويحصّنه من الخارج.
فاستقلال القرار الوطني لا يُستعاد بالشعارات، بل بممارسة الدولة لوظيفتها وبنهوض شعبها إلى مستوى التحدي.