الاقتصاد الزراعي في اليمن: من الإرث التاريخي إلى المستقبل المستدام

الاقتصاد الزراعي في اليمن: من الإرث التاريخي إلى المستقبل المستدام

الكاتب يحيى مناوس – استشاري تطوير ريادة الأعمال

اليمن منذ القدم كان مركزًا حضاريًا ورياديًا في الزراعة في شبه الجزيرة العربية. برع اليمنيون في تنظيم الري والزراعة على ضفاف سد مأرب العظيم، الذي يُعد نموذجًا مبكرًا للتنمية المستدامة. وقد وصف القرآن الكريم اليمن بأنها “بلدة طيبة ورب غفور”، في إشارة إلى خصوبة أراضيها وتنوع بيئتها.

تتميز اليمن بتنوع تضاريسها ومناخها، من سهول تهامة الساحلية إلى المرتفعات الجبلية والصحارى الشرقية، مما أتاح زراعة محاصيل عديدة ومتنوعة مثل البن والعنب والرمان والمانجو والبابايا والطماطم والبطاطس والبسباس والنخيل والتمور. هذا التنوع الجغرافي والمناخي أسس لاقتصاد زراعي قوي مثّل قاعدة أساسية للحياة والازدهار منذ فجر التاريخ.

كانت اليمن رائدة في الهندسة الزراعية والري المدرّج، حيث استغلت طبيعتها الجبلية لإدارة المياه والتربة بكفاءة. وقد استخدمت المجتمعات القديمة تقنيات متقدمة للتحكم في سريان المياه وتحويل المرتفعات إلى مدرجات زراعية غنية بالإنتاج. هذه الخبرة لم تكن مجرد تقنية، بل كانت منظومة اقتصادية واجتماعية دعمت المجتمع والتجارة، وأسهمت في بناء اقتصاد متوازن ومستدام.

شهدت العقود بين 1990 و2010 مرحلة نمو زراعي مهمة، اتسعت فيها زراعة البن والرمان والعنب والمانجو والطماطم والبطاطس والبسباس، وساعد اعتماد تقنيات الري الحديثة والبذور المحسنة في رفع الإنتاج وتحسين الجودة. خلال تلك المرحلة لعب القطاع الزراعي دورًا محوريًا في خفض الفقر الريفي وتعزيز الأمن الغذائي ورفع مستوى الصادرات الزراعية نحو الأسواق الإقليمية والدولية.

لكن مع اندلاع الأزمات السياسية والحروب منذ عام 2011، دخلت الزراعة اليمنية مرحلة تراجع حاد. تقلصت المساحات المزروعة وتراجعت الصادرات بشكل كبير، فيما ارتفعت زراعة القات على حساب المحاصيل الغذائية والتجارية. انخفضت مساهمة الزراعة في الناتج المحلي إلى نحو 11 بالمئة فقط بحلول عام 2024، كما انخفض معدل النمو الزراعي إلى أقل من واحد بالمئة، وتراجعت صادرات البن من ثلاثة وعشرين ألف طن إلى عشرة آلاف فقط. ونتيجة لذلك، يعاني أكثر من سبعة عشر مليون يمني من انعدام الأمن الغذائي بحسب تقارير برنامج الغذاء العالمي.

إن استعادة مكانة الزراعة اليمنية تتطلب خطوات عملية جادة تبدأ بإعادة بناء البنية التحتية الزراعية من شبكات الري والسدود، واستخدام تقنيات الري الحديثة، وترشيد استهلاك المياه من خلال مشاريع حصاد الأمطار واختيار محاصيل أقل استهلاكًا للمياه. كما يجب تطوير الإنتاج الزراعي عبر البذور المحسنة والزراعة العضوية والتقنيات الذكية وتمكين المزارعين من خلال الجمعيات التعاونية وتوفير القروض الميسرة والتأمين الزراعي.

ويمثل الاستثمار في الطاقة الشمسية والصناعات التحويلية الزراعية أحد أهم محركات النهوض بالقطاع، إلى جانب تطبيق الزراعة الذكية باستخدام نظم المعلومات الجغرافية والاستشعار عن بعد وإنشاء مراكز بيانات زراعية حديثة. كما أن تنويع المحاصيل والصادرات الزراعية لتشمل البن والعسل والتمور والفواكه والبهارات العطرية سيعزز الاقتصاد الوطني ويرفع عائدات الريف.

ويُعد التحول نحو الاقتصاد الأخضر والزراعة المستدامة خيارًا استراتيجيًا لليمن، يقوم على الاستخدام الكفؤ للمياه، والتوسع في الزراعة العضوية، وتشغيل الآليات الزراعية بالطاقة الشمسية، وإدارة المخلفات الزراعية بتحويلها إلى أسمدة وطاقة حيوية. هذه الخطوات من شأنها رفع تنافسية المنتجات اليمنية في الأسواق العالمية وخلق فرص عمل مستدامة للشباب.

وتبرز فرص الاستثمار المحلي والدولي في عدة مجالات، منها إنشاء الزراعة المحمية، وتطوير الصناعات التحويلية للمنتجات الزراعية، واستصلاح الأراضي غير المستغلة، إضافة إلى تصدير البن اليمني والعسل والبهارات والفواكه الطازجة والمجففة. كما يمكن إقامة شراكات دولية لتطوير تقنيات الري الحديثة والاستثمار في السياحة الزراعية، مع اعتماد شهادات الجودة العضوية والمستدامة للمنتجات.

أما الزراعة التعاقدية، فهي نموذج فعال لتثبيت دخل المزارعين وضمان جودة الإنتاج والتصدير من خلال عقود واضحة مع الشركات المحلية والدولية. وتشكل محاصيل مثل البن، والرمان، والعنب، والمانجو، والطماطم، والبطاطس، والبسباس، والبهارات العطرية مجالات واعدة للتعليب والتجفيف والتصدير للأسواق العالمية.

اليمن اليوم يمتلك كل المقومات التي تؤهله للعودة إلى موقعه الطبيعي كبلد زراعي منتج ومصدر، بفضل تنوعه الجغرافي والمناخي وخبرته التاريخية. إن النهوض بالزراعة ليس حلمًا بعيدًا، بل رؤية واقعية قابلة للتحقيق إذا ما تم الجمع بين الإرث التاريخي والابتكار المستقبلي. فالزراعة يمكن أن تكون الرافعة الحقيقية للاقتصاد الوطني ومحركًا للتنمية المستدامة والأمن الغذائي، وركيزةً لبناء يمن مزدهر ومستقر.