رويترز تفتح ملف الحوثيين!

في وقتٍ يسعى فيه المبعوث الأممي هانس غروندبرغ لإنعاش مسار السلام المتعثر في اليمن، نشر قسم التحقيقات في وكالة رويترز بتاريخ 15 أكتوبر 2025 تقريرًا استقصائيًا بعنوان: 
"كيف يحكم الحوثيون اليمن: نظام السجون، عبادة الشخصية، ونهب المساعدات الغذائية".
قدّم التقرير صورة صادمة لـ“نظامٍ مغلقٍ” تديره جماعة الحوثي بقوة السلاح والبطش والعقيدة، حيث تُختزل الدولة في “سلطة السيد” التي تحكم بالأوامر فقط، ويغيب عنها النظام المؤسسي، وينصهر فيها المقدّس بالسياسي. فالسجون – كما كشفت رويترز – لم تعد أماكنَ احتجاز، بل أدواتٍ لكسر الخصوم وتطويعهم، من خلال مراكز سرّية تُمارَس فيها صنوف التعذيب الجسدي والنفسي، خارج أي إشراف قضائي أو إنساني.
إلى جانب ذلك، يوظّف الحوثيون التعليم والإعلام والخطاب الديني لترسيخ فكرة “القائد المقدّس” وفرض الولاء المطلق لعبدالملك الحوثي، في مشهدٍ يكرّس هيمنةً فكريةً تُعيد تشكيل الوعي الجمعي على أسسٍ عقائديةٍ مغلقة.
ويضيف التقرير أن شبكة فسادٍ داخل الجماعة تتربّح من بيع المساعدات الإغاثية في الأسواق المحلية، فيما تُوجَّه عائداتها إلى تمويل المجهود الحربي. وهذه الصورة تتقاطع مع تقارير أممية وثّقت آلاف المعتقلين والمخفيين قسرًا، وانتهاكاتٍ ممنهجة ضد الصحفيين والناشطين، إلى جانب تقييد العمل الإنساني وحرية التنقّل في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، تحت شعارات “الحق الإلهي” و“المقاومة”.
غير أن ما كشفه التحقيق يتجاوز حدود الانتهاك الإنساني، ليغوص في عمق الصراع باعتباره معركةً على الوعي قبل أن يكون على السلطة. فالحوثية – كما تقول رويترز – لا تكتفي بالسيطرة على الجسد، بل تسعى لاحتلال العقول، وصناعة جيلٍ يرى في العبودية خلاصًا، وفي الطاعة فضيلةً.
ويرى محللون أن مضمون التقرير يوجّه ضربةً موجعةً لجهود الأمم المتحدة، إذ يكشف واقعًا يناقض فكرة “السلام المستدام”. فبينما تواصل الأمم المتحدة محاولاتها لإعادة الأطراف إلى طاولة الحوار، تمضي الجماعة في تعزيز قبضتها الأمنية، وإغلاق المجال العام، وإعادة هندسة المجتمع حول فكرة “الاصطفاء الإلهي”.
وبحسب مراقبين، فإن تحقيق رويترز يشكّل وثيقةً دوليةً مهمةً تضع المجتمع الدولي أمام سؤالٍ جوهري:
هل يمكن بناء سلامٍ حقيقي في ظلّ مشروعٍ فكريٍّ يُشرعن الاستبداد باسم القداسة؟
فالمشكلة لا تكمن فقط في غياب الثقة السياسية، بل في جوهر المشروع ذاته الذي يجعل أي تسويةٍ سياسيةٍ هشّةً ومؤقتةً ما لم تُعالَج جذور الأزمة.
إن تقرير رويترز ليس مجرد تحقيقٍ صحفي، بل إنذارٌ سياسيٌّ يكشف أن السلام في اليمن لن يتحقق بالبيانات ولا بالمجاملات الدبلوماسية، ولا بالعمل على إغلاق الملف على عواهنه، بل بتفكيك مشروع الحرب من أساسه. إذ لا يمكن الحديث عن سلامٍ بينما تُحكم البلاد بعقلية ميليشيا مغلقةٍ تُهندس العقيدة وتُقدّس القائد.
ولعلّ الرسالة الأهم التي يبعثها هذا التحقيق للعالم هي أن السلام لا يُنتزع من بين أنياب من جعلوا الحرب عقيدةً، والمعاناة سلطةً، فهي قد أصبحت بالنسبة لهم قضيةً وجودية، لا قضيةَ مطالبٍ حقوقيةٍ أو شراكةٍ سياسية، بل تتجاوز ذلك نحو حاكميةٍ وسلطةِ “المقدّس الأوحد”.
فهل يستطيع المجلس الرئاسي والحكومة استيعاب هذا الأمر، وتوحيد صفوفهم، وجعله الهدف الأول، والسعي لإقناع المجتمع الدولي بما ورد في تقرير رويترز واتخاذ ما هو مناسب قبل فوات الأوان؟
أم سيظل الصراع البيني يعبث بالمشهد السياسي، ممهدًا لسقوط الدولة بيد الحوثيين؟