قراءة في رواية (الشيء الآخر، من قتل ليلى الحايك؟) لغسان كنفاني
مسعود عمشوش
في 25 يونيو من سنة 1966، شرعت مجلة (الحوادث) الأسبوعية في بيروت في نشر رواية (الشيء الآخر، من قتل ليلى الحايك؟) لغسان كنفاني، وذلك في تسع حلقات متتالية. وقد شكَّلَ صدور هذه الرواية، ذات الصبغة شبه البوليسية، بروز نوع جديد في كتابات كنفاني الملتزم بقضيته الفلسطينية. فأحداثها تدور حول شخصية محامٍ ناجح يدعى صالح، يُتهم بقتلِ عشيقته ليلى الحايك. وعلى الرغم من براءاته يفضِّل الصمت وعدم الدفاع عن نفسه. وبعد أن صدر عليه حكم الإعدام يكتب في زنزانته رسالة طويلة لزوجته ديما، صديقة الضحية ليلى الحايك، يسرد فيها بعض الملابسات التي أدت إلى وقوع الجريمة، وتبدأ الرسالة/الرواية على النحو الآتي:
"لا يا ديما الرائعة.. أنا لم أقتل ليلى الحايك.
تقولين: إذن لماذا التزمت الصمت طوال الوقت؟ ما الذي ربط لسانك؟ لماذا لم تدافع عن حياتك أنت الذي خلصت حياة الكثيرين من حبل المشنقة؟
هذه هي قصتي كلها...
إنها الجواب على هذه الأسئلة التي حيرت الجميع وحيرتك أنت خصوصاً وحيرتني أنا - في البدء - أكثر من أي إنسان آخر.
لقد كان صمتي إعلاناً راعداً عن شيء آخر في حياتنا عشنا دائماً في معزل عنه فإذا به، فجأة، أقوى ما في حياتنا.
من الذي قتل ليلى الحايك إذن؟
أجيبك ببساطة: شيء آخر هو الذي قتل ليلى الحايك، شيء لم يعرفه القانون ولا يريد أن يعرفه.. شيء موجود فينا، فيك أنت في أنا، في زوجها، وفي كل شيء أحاط بنا جميعاً منذ مولدنا.
نعم أنا جزء من الجريمة، وأنت كذلك... ولكن الذي نفذ الجريمة هو وحش غامض ما زال - وسيظل - طليقاً.
لقد صمت حين اكتشفت هذه الحقيقة فجأة.. وجدت نفسي ي الفخ وعانيت ما عاناه كل إنسان اكتشف فجأة شيئاً لم يكن رفاقه قد اعتادوا عليه بعد، ولذلك قررت أن أصمت، وأن أترك كل شيء يأخذ مجراه الذي سار فيه دون إرادتنا وسيظل يسير فيه بصرف النظر عن إرادتنا..
إن هذه الأمور شديدة التعقيد حين نقولها، ولكن حين تمارسها الأحداث معنا تصبح غير ذلك.
ولهذا بالضبط قررت أن أكتب لك أنت.. لأنني أحبك، ولأنني لمحت في عينيك وأنا جالس في القفص أستمع إلى حكم القضاء ومضة شك أرعبتني.
وسوف لن أزيد شيئاً على ما حدث، وسأبرّر الأمور لك حين أشعر أنها في حاجة إلى تبرير، ولكنني سأقول الحق، كل الحق، ولا شيء غير الحق.
وأنت - بعد ذلك - حرّة في أن تعتقدي ما تشائين. فأنا في الواقع أضع على كتفيك الحمل الثقيل الذي واجهته بالصمت.. فإذا اخترت أن تواصلي الصمت وتطوي المسألة برمتها فهذا يعني أنني أنا أيضاً كنت على صواب.
وإذا اخترت أن تفتحي الملف أمام القضاء مرة أخرى فسترين بعينيك أنك ستدخلين إلى عالم غريب لا مخرج منه تفضلين فيه لو يُعرِّف كنفاني الجريمة على أنَّها سلوك ذاتي، يرتكبها الفرد في بعضِ الأحيان دونما تخطيط، بينما العدالة تلجأ للانتقام، وتخطط لوسيلة الانتقام، فهل العدالة اجراء انتقامي؟".
ثم يعود الروي إلى الوراء ليسرد بعض الملابسات التي يرى أنها ربما قد أسهمت في وقوع الجريمة. ويحكي خروجه لتناول العشاء مع زوجته ديما في أحد المطاعم احتفالا بعيد ميلادها، ثم انتقالهم إلى إحدى الملاهي الليلية الذي يلتقون فيه بليلي الحايك صديقة ديما برفقة زوجها سعيد حايك. وكان هذا اللقاء بداية علاقة غرامية بين المحامي صالح وصديقة زوجته. وتتوالى الأحداث بالتسارع حتى تصل إلى لحظة وقوع الجريمة والتحقيق.
ويتضمن نص الرسالة/الرواية تفاصيل محاكمة الراوي البطل صالح الذي يقوم بإعادة بناء مسرح الجريمة من زاويته كمتهم، لكنه لم يحاول أبدا الإشارة إلى هوية القاتل الحقيقي لليلى الحايك، ويصر على رفض جميع المحرمات والمقولات المُسلَّم بها في العرف، والالتزام بالصمت خلال التحقيقات والمحاكمة، وإصدار حُكمِ الاعدام، وذلك كيلا يسبب أي أذاء لزَوجَتِه أو عشيقته.
وفي الحقيقة، يبدو لنا أن غسان كنفاني، الذي بيّن لنا في رواياته (رجال في الشمس) و(سرير رقم12)، و(أرض البرتقال الحزين) و(عائد إلى حيفا)، التزامه بالكتابة عن قضيته الفلسطينية فضّل أن يتناول في هذه الرواية، التي لم ينشرها في كتاب في أثناء حياته، بعض القضايا المسكوت عنها، التي تملأ واقع مجتمعاتنا العربية الشرقية، والخاضعة للأعراف أكثر من القانون العرف، وكذلك النفاق الأخلاقي الذي يهدد عادة السلام العائلي.
وهناك من رأى في (الشيء الآخر من قتل ليلي الحائك؟) "رواية وجودية بمضمونٍ قضائيٍ وصِبغَةٍ بوليسية، ينتقد فيها كنفاني الأوضاع الاجتماعية ويمتنع وشرعية القوانين المفروضة على الأفراد". فالراوي المحامي يرى أن الأدلة تم جمعها من مسرح الجريمة عبارة عن مصادفات ولا ترتقي إلى مستوى البراهين القطعية وتخلو من الجوانب الإنسانية، مثل الحب والزواج والخيانة الزوجية، والعدالة والإنصاف.
ويمكن أن تذكرنا رواية (ذلك الشيء..) بعلاقة غادة السمان بغسان كنفاني الذي تزوج من الدانماركية آني هوفر ( Anni Høver) سنة 1961 ورزق منها بولدين هما ليلى وفايز. ومن المعلوم أن آني هوفر قد ظلت، بعد استشهاد زوجها غسان كنفاني سنة 1972، تواصل مسيرته في دعم صمود الشعب الفلسطيني في مخيمات الشتات. ومن المعلوم أيضا أن غسان كنفاني لم يتزوج من غادة السمان التي بدأت قصة حبه لها في الستينات من القرن الماضي أيضا. لتحميل الرواية افتح الرابط
https://drive.google.com/.../1X2tEpqDm
VgV6z9ZIu1N.../view...