أحمد عمر بافقيه رائد صحافة الجنوب العربي


مسعود عمشوش
 
عندما نتناول تاريخ الصحافة في الجنوب العربي علينا أن نبدأ بذكر أسماء عددٍ غير قليل من الحضارم، الذي مارسوا الكتابة وإصدار الصحف في المهجر الشرقي وفي الجنوب العربي منذ مطلع القرن العشرين، من أبرزهم محمد بن هاشم وعلي أحمد باكثير وعلي عقيل بن يحيى وأحمد عمر بافقيه. ويتميّز بافقيه عن الثلاثة الآخرين بالتزامه السياسي في مواقفه وكتاباته الصحفية.
في السطور الآتية سنحاول أن نتناول ريادة أحمد عمر بافقيه في تأسيس الصحافة الملتزمة لقضية الجنوب العربي في منتصف القرن الماضي، وذلك من خلال ما كتبه الباحث محمد أبوبكر باذيب في كتابه (السيد أحمد عمر بافقيه من رواد الصحافة العربية في القرن العشرين)، والذي سبق أن كرسنا له دراسة بعنوان (ظاهرة التقريظ في كتاب السيد أحمد عمر بافقيه من رواد الصحافة العربية في القرن العشرين)
في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي طلب الأديب حسين بن علي السقاف، الذي كان يصدر عددا من الصحف والمجلات باللغتين الملاوية والعربية في جاكرتا بجاوة، من أحمد عمر بافقيه، الذي كان حينها في العشرين من عمره، أن يتحمل إدارة تحرير صحيفة (العرب). وقد قبل بافقيه الطلب وأشرك عددا من أبناء الجنوب في تحرير الصحيفة، منهم محمد علي لقمان الذي كان يرفد صحيفة (العرب) بالأخبار والمقالات، وذلك قبل خمسة سنوات من إصدار صحيفته (فتاة الجزيرة). كما كان الأديب علي أحمد باكثير، الذي أصدر بين سنة 1928 وسنة  1930 صحيفة (التهذيب) في مدينة سيؤن، ينشر بعض قصائده صحيفة (العرب).
وفي الفترة من سنة 1936 وحتى 1939 أصدر بافقيه صحيفة خاصة به في جاوة باسم (السلام)، وقد صدر أول عدد منها في 12 إبريل 1936. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية سنة 1939 انتقل بافقيه إلى ماليزيا ومنها انتقل إلى سنغافورا وفيها تمكنت سلطة الاحتلال اليابانية من اعتقاله، وأطلق سراحه بعد هزيمة اليابان، وعمل أولا في المدرسة العربية في الصولو في وسط جاوا، ومنها انتقل للعمل في القسم العربي من إذاعة جاكرتا بعد حصول أندونيسيا على استقلالها سنة 1948. وسرعان مه فضل  العودة مع كثير من الحضارم إلى وطنه حضرموت. واستقر  في المكلا، وشرع في مراسلة صحيفة (النهضة) العدنية، التي كانت ذات توجه جنوبي. وقد ألهبت المقالات التي ينشرها بافقيه بعنوان (رسالة حضرموت) حماس أبناء المكلا. لاسيما تلك التي غطى فيها مظاهراتهم ضد تعيين السوداني القدال في يناير 1951، والتي عرفت بـ(حادثة القصر)، وقد قعت فيها اشتباكات عنيفة وجرح 55 متظاهرا واعتقل المئات، وكان من بين المعتقلين الصحفي أحمد عمر بافقيه وذلك بسبب ما كتبه عن المظاهرة وماحدث فيها.
وبعد إطلاق سراحه ببضعة أشهر ، في أغسطس 1951، قبل بافقيه طلب عبد الرحمن جرجرة صاحب صحيفة النهضة للمجيء إلى عدن وتولي إدارة تحرير الصحيفة. وكان ضمن المشاركين معه في تحريرها رئيس تحريرها عبدالرحمن جرجرة وعبدالله باذيب.
وفي سنة 1954 قدم بافقيه استقالته من صحيفة (النهضة)، وقرر  هو وصديقه المحامي شيخان الحبشي تأسيس صحيفة أخرى: (الجنوب العربي)، تدعم مسيرة حزب رابطة أبناء الجنوب العربي، وتعد لسان حاله. وقد كانا بافقيه والحبشي عضوان قياديان فيه. وكانت الصحيفة الأسبوعية السياسية الأخبارية، وقد صدر العدد الأول منها يوم الثلاثاء ۳۰ محرم سنة ١٣٧٤ هـ، الموافق ٢٨ سبتمبر ١٩٥٤م، وكتب في أحد أركان صفحة العنوان: صاحبها ورئيس تحريرها: أحمد عمر بافقيه ومستشارها القانوني: شيخان الحبشي المحامي. ثم انضم إلى فريق العمل بها: عبدالله عبد الرزاق باذيب بعد استقالته هو أيضا من صحيفة النهضة.
وقد جاءت افتاحية العدد الأول على النحو الآتي : "أيها القارئ هذا هو العدد الأول من هذه الصحيفة الجنوب العربي بين يديك، لا نزعم أنه بلغ الشأو الذي ترضاه، بله أن ندعي أنه نتاج عمل جبار، وإنما هو جهد المقل رائدنا فيه محض الإخلاص، والإخلاص فقط، فإن أرضاك فهو ما نتوخى، وإن لم يرضك فما عليك إلا أن تمد إلينا يدك لنصل جميعاً بهذه الصحيفة إلى الكمال المنشود، فهي ليست حكراً لصاحبها، بل إن كل قارئ يتفق معنا في المبادئ والأهداف يعتبر عضواً في أسرتها. 
وما هذه المبادئ والأهداف التي ستعمل الصحيفة لتحقيقها إلا نشر الوعي القومي بهذا الجنوب العربي، وتناول قضاياه الحيوية بروح مترفعة عن الأغراض الشخصية والمطامع المادية، وإفساح المجال للآراء الحرة لكي تحتك فنصل باحتكاكها إلى الحقيقة والحقيقة كما يقول المثل : ( بنت البحث)، والقوي بمبادئه لا يخشى المعارضة أو المناقشة.
على أن من الصراحة أن نعترف بأن هذه المحاولة جد مرهقة في ظروف كظروفنا التي لا يجهلها القراء، فلا بد لتحقيق هذه الغاية من كثير من اللباقة والتحايل على الظروف القاسية، وما ذلك على ذكاء الكتاب وفطنتهم بعسير.
ونرى من قبيل التعريف لا المباهاة، أن نذكر أن صلة صاحب هذه الصحيفة بخدمة هذا الجنوب العربي وخدمة عدن النجمة اللامعة فيه، عن طريق الصحافة لا تعود إلى اليوم الذي تولى فيه إدارة تحرير صحيفة (النهضة)، بل إلى ما قبل نحو عشرين عاماً، عندما كان يصدر صحيفة العرب بالشرق الأقصى، وهو إذ ذاك لم يبلغ العشرين، في الوقت الذي لم تكن عدن قد عرفت صحيفة خاصة بها.
فقد كانت صحيفة العرب هذه تخصص حيزاً كبيراً من صفحاتها لعدن، وكان يراسلها في ذلك العهد الأستاذان محمد علي لقمان، وأحمد محمد الأصنج، ولسنا نذكر ذلك ممتنين وإنما تحدثا بالنعمة!". 
وقد تميزت أطروحات الصحيفة بمعاداة الاستعمار، والتنديد بممارساته، وعملت منذ صدورها على نشر أهداف ومبادئ الرابطة ولوائحها، وهو الأمر الذي حدد هويتها السياسية واتجاهاتها القريبة والبعيدة، حيث دأبت على التصدي الحازم لشعارات الجمعية العدنية، التي كانت تريد أن تبعد عدن عن الحنوب وتربطها ببريطانيا وبرابطة الشعوب البريطانية (الكومنولث).
 وكما قامت صحيفة (الجنوب العربي) بدور متميز  في تحريض الرأي العام ضد الاستعمار البريطاني واستجابت لمبدأ الرأي والرأي الآخر، لاسيما في تلك الفترة التي احتدم فيها الصراع ووصل إلى ذروته.  ومرت بالصحيفة وناشرها ظروف عصيبة، وقد أشار بافقيه نفسه إلى تلك التحديات قائلا في زاويته (كلمتنا) تحت عنوان: (بين الجنوب العربي وقرائه): "إن من أبغض الحلال إلينا الحديث عن أنفسنا، لذلك ترانا أيها القارئ الكريم ندأب في العمل لإرضائك دون أن نشغلك بعرض الجهود التي نبذلها والمشاق التي نعانيها في هذا السبيل، ذلك لأننا نكل كل ذلك إلى ذكاء القارئ نفسه وتقديره..".  
ويذكر د. محمد أبوبكر باذيب أن "صحيفة الجنوب العربي استمرت في الصدور أربع سنوات تحت إدارة أحمد بافقيه، وصمدت أمام ظروف حالكة أحاطت بها، وكان الأستاذ بافقيه يكتب عمود الافتتاحية في صدر كل عدد، ثم صار عنوان هذه الافتتاحية (كلمتنا)، وهي مقالات متنوعة، بين سياسية واجتماعية، يجد القارئ منتخبات منها في قسم المقالات. كما حظيت هذه الصحيفة بتوفر أقلام عدد من أعلام الكتاب، الذين تستحق مقالاتهم أن تجمع وتصدر على شكل سلاسل أدبية، لما فيها من معلومات قيمة تعبر عن وضع وفكر المجتمع العدني في ذلك الزمن. وكانت الأجواء السياسية ملبدة بغيوم كثيفة، وكانت تباشير الثورة على الاستعمار قد أخذت في الانبلاج.
 كانت الأفكار المطروحة، والمقالات الساخنة الملتهبة ضد حكومة بريطانيا، وظهور الأحزاب والتشكيلات الحزبية، كل ذلك كان مؤذناً بنهضة أبناء الجنوب ووقوفهم في صف واحد في مواجهة الاستعمار، ولم تكن الحكومة البريطانية غافلة عن هذه الحركات، ولكنها كانت تنظر إليها من زاوية مصلحتها الذاتية، فأغضت عن الكثيرين، ولكنها ضربت بيد من حديد كل من لم يرق لها من رجالات الجنوب الذين كانوا يريدون الإصلاح الحقيقي للجنوب".
 وعندما منعت بريطانيا شيخان الحبشي أمين عام (الرابطة) من العودة إلى عدن سنة 1956 كتب أحمد  بافقيه مقالاً حماسياً بهذه المناسبة في العدد 88 من الجنوب العربي جاء فيه: "کلنا شیخان:
يظهر أن السلطات البريطانية في (عدن) لا تريد أن تأخذ عبرة وعظة من الأحداث التي مرت على بريطانيا في عهود استعمارها الطويلة. هي لا تريد هذا! وإلا لما أقدمت بالأمس القريب على محاكمة عبد الله باذيب، ثم نفي محمد عبده نعمان ثم أخيراً محاكمة أعضاء المؤتمر الوطني. هي لا تريد هذا ! وإلا لما أقدمت اليوم على نفي (شيخان الحبشي، ثم على وضع شروط تعسفية أمام رابطة ابناء الجنوب.."
وفي رمضان ۱۳۷۷ هـ (أبريل ١٩٥٨م): عقب إفلات الجفري من قبضة البريطانيين عاد الجنود إلى عدن، ليغلقوا مقر صحيفة الجنوب العربي، ويصادروا ممتلكاتها، تلقى بافقيه خبراً سرياً من عناصر في الجيش البريطاني مفاده أنه قد صدر أمر بإلقاء القبض عليه من قبل الحكومة البريطانية، وأن عليه مغادرة البلد فوراً. فتحرك بعد سماع ذلك الخبر إلى لحج في وقت مبكر، والتقى بعضو قحطان الشعبي  وأخبره بأن حياة الرابطيين صارت مهددة، وأن عليهما الخروج بسرعة، فرافقه في سيره، حتى وصلا إلى الراهدة، وكان قحطان حينها بعيداً خارج نطاق الشبهات التي حامت حوله فيما بعد! ومن الراهدة أبرق بافقيه إلى بلاط الإمام في (تعز) بطلب الإذن بالدخول إلى أراضي المملكة المتوكلية اليمنية ( بحكم العلاقة القديمة بينه وبين الإمام
أثناء تلك الأحداث، أغلقت السلطة في عدن مقر صحيفة (الجنوب العربي) لسان حال الرابطة، وتم تصفية حزب الرابطة) نهائياً من عدن، وكانت تظن بريطانيا أنها بهذا الأسلوب سوف تقمع حدة معارضة الاستعمار، فكان الأمر بعكس ذلك، فقد زادت شعبية (الرابطة)، واعتبر رؤساؤها من كبار المناضلين ضد الاستعمار، وانتقلت القيادة إلى موقع آخر في الوطن العربي، إلى القاهرة، حيث عاودت نشاطها بشكل مكثف، وأكثر من ذي قبل.
ومن أبرز الأنشطة الإعلامية التي اتخذتها (الرابطة) في القاهرة، وبالتعاون مع الحكومة المصرية، افتتاح إذاعة أسبوعية تنطلق عبر محطة ( صوت العرب)، و أسندت إدارتها لشيخان وأحمد بافقيه، كما كان عبد الله هادي سبيت الشاعر اللحجي المعروف يلقي عبرها العديد من قصائده الشعرية، كان ذلك في الأعوام (٥٦-٥٨م)، قبل صدور صحيفة النضال.
وفي سنة ١٩٦٣، صدرت عن القسم الإعلامي لحزب الرابطة في مصر، دورية بعنوان (نظرات في قضية الجنوب العربي)، قال عنها أحمد بافقيه "وليتُ مسؤولية الإشراف على صحيفة أسميناها الرابطة» لتكون لسان حال الإطار السياسي الذي ضمنا". وقد احتوت النشرة على عدد من المقالات بأقلام السيد الجفري رئيس الرابطة، ومحمد سالم باوزير الذي كان سكرتيراً مساعداً لرئيس الرابطة، وكان نشيطاً في المراسلات والمتابعات الرسمية، وتقرير لشيخان الحبشي، وكانت الافتتاحية بقلم الأستاذ بافقيه، تقع هذه النشرة في ٣٢ صفحة..
قال فيها: "في هذه النشرة ملامح من المجلة، وسمات من الكتاب فيها تنوع المواضيع وهو من ملامح المجلة، ولكن جميع هذه المواضيع يربطها رابط واحد هو قضية الجنوب العربي، فإذا اعتبر ذلك بمثابة وحدة الموضوع فهو من سمات الكتاب. وليس لهذه النشرة مواعيد محددة، والمجلة من خصائصها أن تصدر دورية في تاريخ معين، ومع ذلك فإنا نؤكد لقرائنا أننا سنحافظ قدر المستطاع أن تطالعهم هذه النشرة في مواعيد متقاربة، لا تتجاوز الشهر، ومهما كانت ملامح هذه النشرة وسماتها، فإن الذي حدانا إلى إصدارها هو ما نشعر به من الفراغ وانقطاع وسائل الصلة بين حزب رابطة الجنوب العربي وقواعده المنتشرة في الوطن والمهاجر المختلفة، بسبب حرمان الحزب في عدن من أي وسيلة من وسائل الاتصال بأعضائه وأنصاره ومؤيديه وبالشعب العربي في كل أنحاء الوطن الكبير.
"فمنذ عام ١٩٥٨ ما فتئ الحزب يتقدم إلى السلطات البريطانية في عدن بطلب ترخيص الإصدار صحيفة تنطق بلسانه حتى تجاوز عدد هذه الطلبات عشرة طلبات، وفي كل مرة تجيب عليه السلطات بالرفض بدون إبداء الأسباب، في حين توزع تراخيص الصحف للسائرين في ركابها، ولكل من هب ودب بدون حساب.
ولم تكتف بهذا، فقد حرمت على الحزب حتى عقد الاجتماعات العامة، أو طبع النشرات غير الدورية، ومن هنا نشأ الفراغ الذي نحاول اليوم سده بهذه النشرة، وإعادة الصلة ما بين الحزب وقواعده والشعب العربي في كل جزء من أجزاء الوطن العربي الكبير. هذا، والنشرة مستعدة لتلقي أي اقتراح أو بحث أو مقال يتفضل به علينا قراؤها،شاكرين لهم جهدهم وكرمهم. والله نسأل أن يوفقنا لطريق الرشد والسداد". أحمد عمر بافقيه