عن زمن الرئيس إبراهيم الحمدي

(الأول) كتب محمد أمين:
يوم 28 يناير وقع الإعلامي اللامع أنور العنسي، بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، كتابه الشائق والصاعق “زمن إبراهيم”. والكتاب شائق بجمال أسلوبه وثراء لغته، وبالحضور الباهر لإبراهيم الحمدي.. الإنسان والزعيم.. وهو صاعق في إشاراته العديدة لاغتيال الرئيس، وفي تصوير الخسارة الفادحة لليمن برحيله وانتهاء مشروعه، ثم في تصفية تركته، ومحاولة طمس اسمه ودوره من الذاكرة الوطنية.
أهداني الصديق العزيز أنور نسخة من الكتاب، قبل أسابيع من توقيعه، وقرأته بشغف، وبما يستدعي الانتشاء الذي غمر جيلنا تلك الأيام والشهور، بوعد حمله الرئيس الشاب والجذاب، ولكن أيضًا بالحسرة على أمل بدا، وبشارة ومضت، وعلى ازدهار لاح، وكبرياء علت وحلقت في سماء البلاد، ثم انطفأ كل هذا، وغرق في مغارة التخلف، وفي خسة القبيلة وانحطاطها.
وكان أنور سألني قبل أن يطوي غلاف مسودة الكتاب، عن علاقة إبراهيم الحمدي بالتنظيم الناصري في اليمن، وعما إذا كان انضم إلى عضويته، كما يكرر الناصر يون في أدبياتهم، أم أن العلاقة قامت على نوع من التعاون المتبادل، وأجبته صادقًا بما أعرف، وأيقنت أن إبراهيم الحمدي اتخذ قرارًا، وانتمى للتنظيم الناصري. وكان صادقًا في اختياره لا يريد إيهامهم واستغلالهم، ولا هم يريدون. فلقد وجدوا فيه المنية والأمل، واعتقدوا أن الأقدار ساقت إليهم فرصة تحقيق تصوراتهم في توحيد اليمن وتطويره دون الحاجة إلى مغامرة الانقلاب أو ما شابهه للوصول إلى السلطة.
ذلك أمر آخر. ويهمني أن الكتاب الثمين حفل بمعلومات جديدة علي، وسجل مواقف وحوادث لم أطلع عليها من قبل.
وأنا أدركت إبراهيم الحمدي في صدارة المشهد اليمني عندما كان في منصب نائب رئيس الوزراء. وكنت في مطلع الشباب عندما وجدت لدى والدي في منزلنا بالقرية نسخة من مجلة “المصور” المصرية، منشورًا في صفحتها الأخيرة مقابلة مع “نائب رئيس الوزراء اليمني للشؤون الداخلية”، وفيها اسم إبراهيم الحمدي وصورته.
وكنا في سن المراهقه السياسية، لا نطيق أسماء الذين يحكمون بلادنا ولا صورهم. لعل العمة التي افتقدت رأس رئيس المجلس الجمهوري ورئيس وزرائه، في بعض السنين، عبدالله الحجري، وغطاء الرأس الكابس على رأس رئيس مجلس الشورى عبدالله الأحمر، رسخت فينا انطباعًا عن تخلف البلاد في ذلك العهد البائس والممقوت من أعرض الجماهير. كان الزي في ظننا تعبيرًا صادقًا وأمينًا عما تختزنه الأدمغة داخل الرؤوس.
لعلي من هنا أعجبت بصورة إبراهيم الحمدي، صاحب الوجه الحليق، والبدلة الأنيقة، وربطة العنق. ولقد قرأت المقابلة القصيرة دون أن أتوقف عندها طويلًا، غير أني عدت إليها بعد سنوات، ولاحظت أن الرجل كان يتحدث عن إدارة جديدة في البلاد. لقد تكلم عن نية الحكومة وضع برنامج تنموي، وبالفعل أعدت الحكومة البرنامج الثلاثي الذي استهدف في الأساس استخلاص قائمة بيانات لبناء خطة اقتصادية لمدة خمس سنوات. وفي عهد إبراهيم أنجز ما يربو على تصورات ذلك البرنامج، فقد كان الطموح أوسع وأبعد وأعمق. وتأسيسًا على البرنامج، تم تصميم الخطة الخمسية الأولى.
ومن أسف أن إبراهيم الحمدي لم يتريث وينتظر، أو أن المؤامرة عجلت بالموعد.
سأقول إن هذا لم يشغلني كثيرًا وأنا أطالع الكتاب. غير أني أقف عند أمرين. لكني قبلها وبعدها أذكر بالخيال الذي أوحى به في أذهان الناس الرئيس المبهر والآسر.
ولقد أذكر أن جمال عبدالناصر لم يأسر الجماهير قبل تأميم شركة قناة السويس، وجسارة التحدي لانتزاعها بالقوة من أفواه المستعمرين، رغم أنه قبل ذلك الانتصار الساحق، حقق إنجازًا عجزت القوى الوطنية المصرية عنه خلال عشرات السنين، وهو إجلاء القوات البريطانية من قاعدتها في السويس.
في كتاب “زمن إبراهيم” لاحظت أنه لم يتوقف بما يكفي أمام قضية مهمة، وهي أن عهد إبراهيم قضى على المحسوبية والرشوة والاختلاس
في كتاب “زمن إبراهيم” لاحظت أنه لم يتوقف بما يكفي أمام قضية مهمة، وهي أن عهد إبراهيم قضى على المحسوبية والرشوة والاختلاس. في الكتاب إشارات إلى أن فلانًا تولى مسؤولية قيادية في لجان التصحيح المالي والإداري، لكنه لم يتوقف أمام مغزى إنشاء هذا الجهاز الشعبي والرسمي في الوقت ذاته. ثم ما الذي أنجزه؟ وماذا كان تأثيره لدى أغلبية الناس؟
وأحسب أن أسوأ ما صنع نظام ما بعد 5 نوفمبر، هو عودة الوجه القبيح للإدارة في العهد الملكي، الرشوة والمحسوبية، حتى غدت الحقوق والأعراض مباحة أمام سلطان المال، فجاء إبراهيم الحمدي ليمحو تلك الصورة، ويقضي على السلوكيات البغيضة والشريرة في الإدارة الحكومية، وفي القضاء. ولقد استطاع في وقت قصير، مستعينًا بلجان التصحيح المالي والإداري، ثم بجهاز الرقابة الذي أنشأه، فغدت الرشوة مستحيلة، وانتهى الاختلاس، وزال كل سلوك يسيء للذمة والطهارة.
وقد يرد هذا الفضل إلى أن اللجان ضمت شبابًا حديثي التخرج من الجامعات العربية والأجنبية، يملؤهم الطموح للتغيير، لكن هذا ليس صحيحًا بالمطلق، فإن بعضهم غرق في الفساد عندما عادت بيئته مرة أخرى، وإنما الحقيقة المؤكدة أن مرد الأمر وجود رجل على رأس السلطة، مجبول بالطهارة ومسلح بالإدارة.
ذلك أهم ملمح ثوري في العهد القصير، والملمح الثاني هو الديمقراطية بأبهى تجلياتها. وذلك ما لا يدرك مع نظام يتولاه قائد عسكري، غير أن الحقيقة على عكس المعروف والمألوف، حيث يتبدى الحال في الحركة التعاونية، وهي في جوهرها قامت من أجل إنجاز مشاريع تنموية بمبادرات شعبية، وقد حققت في هذا المجال بأوسع ما يكون الإنجاز، فانتشرت شبكات الطرق، وعمت مشاريع المياه والصحة والتعليم. إلا أن القيمة الأعلى لتلك التجربة التدرب على الديمقراطية.
وأقول التدرب أو التدريب، وليس الديمقراطية الكاملة، فليست الديمقراطية بأن ينتخب الناس برلمانًا، ثم يغفون أربع سنوات، ليذهبوا مرة أخرى إلى صناديق الاقتراع.
مع الحمدي.. ومع الحركة التعاونية، أخذ الناس يتدربون على ديمقراطية حقيقية.. انتخاب، ثم محاسبة بعد سنة: ماذا حققت الهيئة الإدارية المنتخبة للقرية والعزلة والمديرية، وحتى أعلى المستويات التنظيمية؟
كان الحمدي رائدًا في هذه التجربة كما في غيرها لإرساء قيم جديدة في مجتمع تواق ومتطلع. ولقد انطفأ البريق، لكن البذرة لم تزال تتغذى من تراب الأرض،، وتعد بأمل قادم، وبعودة ثانية إلى النور.