حين أضاعوا الجنوب وراحوا ينتظرونه محملًا بأحلامهم
علي محمد سيقلي
يروى أن أعرابيًّا ضيع بعيره في الصحراء، فرفع يديه للسماء وقال:"اللهمّ رد إلي بعيري، واجعل على ظهره تمرًا ودنانير، ولا تجعل عليه وصيًّا سواي".
ولأن الله لطيف بعباده، رجع إليه البعير محملًا بالرزق، فابتسم الأعرابي وقال بكل ثقة:"كنتُ فقط أُختبر إرادة ربي على الإنجاز" من يومها، صار ذلك الأعرابي الملهم الروحي لكل من ضيع وطنه في لحظة طيش ونزق.
ولأن التاريخ يحب التكرار، جاء جيل آخر بعده، أضاع الجنوب في صفقة"وحدة مقدسة"، دون ورقة ضمان ولا حتى عقد زواج شرعي.
باعوا البعير بما فيه من ثروات ونفط وميناء وهوية ونظام وقانون، وقالوا للشعب في خطاب النشوة:"لقد توحدنا، ولن يفرق بيننا إلا الموت"، لكن ما إن مضت سنوات قليلة حتى اكتشفوا أنهم لم "يتوحدوا"، بل ذابوا في بطن الحوت كما تذوب التمرة في فم الجمل.
اختفى البعير، واختفى التمر، وبقيت "الندامة" تذكرنا بنفق التواهي المظلم، اليوم، وبعد عقودٍ من التيه، يجلس الأحفاد على رمال السياسة يرفعون أيديهم بالدعاء: “اللهمّ رد إلينا الجنوب، واجعل معه الأرض والبحر والجبال والسهول والنفط، والميناء، وحق تقرير المصير، ولا تجعل عليه أحدًا من الفاسدين سوانا”.
يطالبون بعودة الجنوب، لكن بشرط أن يعود مزينا بالذهب وملفوظا من فم الأمم المتحدة، وموافقة 17 مليون شمالي، دون تعب ولا ثورة ولا إصلاح للبيت الداخلي، يريدونه بعيرا دبلوماسيّا يأتي من واشنطن لا من عدن، ويحمل بيانا لا سيادة.
المضحك المبكي أن بعض من ضيعوه بالأمس عادوا اليوم يذرفون دموع الندم في المؤتمرات، يتحدثون عن “مظلومية الجنوب” وكأنهم لم يكونوا شركاء في تسليمه على طبق من الوحدة، وكأنهم لم يوقعوا بأنفسهم على صكّ الضياع.
صاروا ينادون بالتحرير بنفس الحماسة التي نادوا بها للوحدة، ويطالبون بثروات هم من بعثرها، ويصرخون ضد الفساد بأصوات هي ذاتها التي وقعت على العقود الفاسدة بالأمس.
نحن اليوم أمام مشهد أعرابيّ بامتياز: أضاع بعيره بيده، ثم جلس ينتظر أن يعود إليه “بما تشتهيه نفسه”، دون أن يكلّف نفسه حتى البحث عن أثر البعير في الرمل.
يصرخ ليلا ونهارا:"اللهم رد إلينا الجنوب، واجعل معه النفط، والرواتب، والمناصب، ولا تجعل عليه أحدا من خصومنا".