حق شعب الجنوب في تقرير مصيره بين (شرعية التاريخ) و(تعقيدات السياسة الدولية)!

يمر الجنوب اليوم بمنعطفٍ تاريخيٍ بالغ الأهمية، يعيد طرح المسألة الجوهرية التي ظلّت حاضرة في وجدان الجنوبيين منذ عقود: حقهم في تقرير مصيرهم واستعادة دولتهم المستقلة التي كانت قائمة حتى عام 1990. ففي ذلك العام، دخل الجنوب في وحدة اندماجية مع الجمهورية العربية اليمنية، حملت في بدايتها آمالًا عريضة بميلاد دولة عربية موحّدة تقوم على الشراكة والندية والمواطنة المتساوية. غير أن تلك الآمال سرعان ما تبددت مع حرب صيف 1994 التي حُسمت بالقوة لصالح الشمال، لتتحول الوحدة من شراكةٍ طوعية إلى ضمٍّ وإلحاقٍ قسريٍّ. ومنذ ذلك التاريخ، بدأت رحلة نضالٍ طويلة خاضها أبناء الجنوب في ميادين السياسة والشارع، لاستعادة ما يرونه وطنًا سُلب منهم بالإكراه لا بالاتفاق.

الجنوب اليوم ليس مجرد جغرافيا داخل خريطةٍ متنازعٍ عليها، بل كيانٌ سياسي وشعبي متكامل الملامح. فقد نجح الجنوبيون خلال السنوات الأخيرة في بلورة تمثيلٍ سياسي واضحٍ تجسّده قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي، المفوَّضة بإرادةٍ جماهيريةٍ واسعة، والتي باتت تمتلك مؤسساتٍ سياسية وأمنية وعسكرية تدير واقعًا فعليًا على الأرض، وتؤمّن الاستقرار في معظم محافظات الجنوب.

في المقابل، لم تعد ما يُعرف بالشرعية اليمنية قادرةً على الاستمرار، وأثبتت فشلها في الشراكة مع الجنوبيين خلال المرحلة الانتقالية، بل أصبحت عائقًا، وتحولت إلى أطرٍ شكليةٍ متنازعة المصالح. والأسوأ من ذلك أن بعض الأطراف المحسوبة على تلك الشرعية تبنّت مواقف أكثر عدائية تجاه تطلعات الجنوبيين من خصوم الأمس، ما زاد الهوة بين الجنوب والمنظومة السياسية التقليدية في الشمال.

إن حق تقرير المصير ليس مطلبًا عاطفيًا أو نزعةً انفصالية كما يحاول البعض تصويره، بل هو مبدأٌ راسخ في القانون الدولي نصّ عليه ميثاق الأمم المتحدة، والعهدان الدوليان الخاصان بالحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ويُعد هذا المبدأ أحد الركائز الأساسية للنظام الدولي الحديث، إذ يقرّ بحق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال أو التهميش أو القهر السياسي في أن تحدد مستقبلها بحرية، وأن تختار شكل نظامها السياسي دون إملاءٍ أو وصاية.

وقد مارس شعب الجنوب هذا الحق بوسائل سلمية وديمقراطية، عبر الحراك الجنوبي السلمي منذ عام 2007، ثم عبر الحشود المليونية التي خرجت في مختلف مدن الجنوب رافعةً شعار استعادة الدولة. وعندما فُرضت الحرب عليه، دافع الجنوبيون عن أرضهم ووطنهم ودحروا الاحتلال، وصولًا إلى التمثيل السياسي المنظم الذي يعبّر عن إرادتهم اليوم. فالجنوبيون لم يلجؤوا إلى العنف كوسيلةٍ لفرض إرادتهم، بل اختاروا العمل السياسي المنظم والحراك الشعبي الواعي الذي يوجّه رسالة واضحة للعالم: الجنوب لم يعد قضيةً هامشية، بل واقعًا سياسيًا واجتماعيًا لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه.

غير أن التحدي الأكبر أمام القضية الجنوبية لا يكمن داخل حدود الجنوب ذاته، بل في تشابك المصالح الإقليمية والدولية التي تنظر إلى الجنوب بعيون الحذر والمصلحة، لا بعيون العدالة والمبادئ. فثمة قوى ترى في استعادة الدولة الجنوبية تهديدًا لمعادلاتٍ جغرافيةٍ وسياسية قائمة، أو لعلاقات نفوذٍ تمتد لعقود، بينما تنظر أطراف أخرى إلى الجنوب باعتباره ورقةً تفاوضية يمكن تأجيلها أو استخدامها في سياقات التفاهمات السياسية مع القوى الأخرى. وهذه مقاربةٌ اختزاليةٌ وخطيرة، لأنها تتجاهل حقيقة أن الجنوب اليوم ليس موضوعًا للتفاوض، بل طرفًا رئيسيًا فيه، وأن تجاهله لا يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمة اليمنية وتعقيد مسارات السلام.

كما أن بعض القوى الدولية تتعامل مع الملف الجنوبي من منظور الاستقرار الإقليمي، دون أن تدرك أن الاستقرار الحقيقي لا يتحقق عبر فرض واقعٍ سياسيٍّ مرفوضٍ من شعبٍ بأكمله. فالحلول المفروضة من الخارج أثبتت فشلها في كل التجارب المماثلة، لأن السلام لا يمكن أن يُبنى على إنكار إرادة الشعوب، ولا يمكن أن يستمر إن لم يستند إلى العدالة والاعتراف بالحقوق التاريخية والسياسية لجميع الأطراف.

خلافًا للمخاوف التي تُثار أحيانًا، أثبت الجنوب خلال السنوات الماضية أنه عامل استقرارٍ لا مصدر تهديد. فقد لعبت قواته الأمنية والعسكرية دورًا حاسمًا في مكافحة الإرهاب، وتأمين الممرات البحرية الحيوية في خليج عدن وباب المندب، وحماية المصالح الإقليمية والدولية في واحدة من أكثر المناطق حساسية في العالم. ومن هذا المنطلق، فإن التعامل مع الجنوب باعتباره مشكلة لا يخدم السلام ولا المصالح المشتركة، بل العكس، فاستعادة دولة الجنوب المستقلة والقادرة على إدارة شؤونها ستكون ضمانةً حقيقية للأمن الإقليمي، وشريكًا موثوقًا للمجتمع الدولي في مكافحة التطرف وضمان حرية الملاحة وحماية التجارة العالمية.

إن أي خارطة طريقٍ سياسية في اليمن تتجاهل الجنوب كطرفٍ أصيل في صناعة الحل، أو تختزله في قضيةٍ جانبيةٍ يمكن معالجتها لاحقًا، هي وصفةٌ لفشلٍ جديد يُضاف إلى سلسلة الإخفاقات السابقة. فالقضية الجنوبية ليست تفصيلًا في الأزمة اليمنية، بل هي جوهرها منذ عام 1994، ولا يمكن لأي تسويةٍ سياسية أن تنجح ما لم تتعامل معها باعتبارها الركيزة الأولى لأي سلامٍ عادلٍ ومستدام.

وعليه، فإن المطلوب اليوم من المجتمع الدولي، ومن الأطراف الراعية للعملية السياسية، أن يتبنَّوا مقاربةً أكثر واقعيةً وإنصافًا، تعترف بالجنوب كفاعلٍ سياسي وشريكٍ أساسي في بناء مستقبل المنطقة، لا كملفٍّ مؤجَّل أو قضيةٍ ثانوية. كما أن أي حلولٍ اقتصادية أو إنسانية لن تؤتي ثمارها ما لم تسبقها معالجةٌ سياسيةٌ عادلة تضمن للشعب الجنوبي حقه في تقرير مصيره بحرية.

لقد أثبتت التجارب أن تجاهل الحقائق على الأرض لا يصنع استقرارًا، وأن القفز فوق الإرادة الشعبية لا ينتج سلامًا دائمًا. الجنوب اليوم ليس في موقع المتلقي أو التابع، بل في موقع الفاعل وصاحب القرار، بعد أن قدّم تضحياتٍ جسيمة وصاغ مشروعه الوطني بوعيٍ ومسؤولية.

وإذا أراد المجتمع الدولي حقًا أن يرى يمنًا مستقرًا وجنوبًا آمنًا، فعليه أن يتعامل مع القضية الجنوبية من منظور العدالة والشرعية التاريخية، لا من زاوية الحسابات المؤقتة والمصالح الضيقة. فاستعادة الجنوب لحقه في تقرير مصيره ليست نهاية السلام، بل بدايته الحقيقية، حين تُبنى العلاقات بين الشعوب على الاحترام والندية، لا على الإخضاع والإملاء.